تحدثنا في المقال السابق عن
علاقة الفقر بالتعليم ونقص الغذاء والطاقة. وذكرنا أن المسوحات أثبتت أن الأسر
التي لم ينل عائلها حظاً من التعليم تشكل 60% من الأسر الفقيرة بينما تلك التي حظي
عائلها بتعليم جامعي تشكل 9% فقط من الأسر الفقيرة. وذكرنا حسب المسوحات أن 31.5%
تعاني من تدني استهلاك الفرد من الطاقة الحرارية "أي طاقة الحركة
والعمل" والذي جري تقديره في السودان 1751 سعراً حرارياً. وهذه المؤشرات تضع
الإصبع علي أسباب الفقر في السودان وهي نقص الطاقة والصحة ونقص المعرفة فما
العمل؟
الغذاء والصحة والتعليم أولاً:
لابد لإستراتيجية النهضة
الاقتصادية أن تكون إستراتيجية لمكافحة الفقر بمقاربة التشغيل الكامل لقوة العمل
المتاحة في السودان "نسبة البطالة حسب تعداد 2008 16.8%" .ثم
بزيادة الطاقة والقدرة علي العمل مع تحسين الوضع الغذائي والصحي من جهة. وبناء
القدرة علي العمل من الجهة الأخرى من خلال التعليم والتدريب. إن الفقر الريفي هو
الفقر الأوسع )57.6% ( من
الأسر الفقيرة بينما الفقر الحضري 26.5% لذلك فأن المعركة الأساس مع الفقر هي
معركة "التنمية الريفية" . وبخاصة في مجال تطوير الإنتاج الغذائي وتحسين
الثقافة الغذائية وتسريع الرعاية الصحية الأولية. والمجال الآخر هو التعليم
والتدريب. ولا شك أن معظم الأسر غير المتعلمة تقطن في الريف كما أن معظم التسرب من
التعليم يقع هنالك . ولا تكاد توجد أية وسائل أو وسائط تنشط في التدريب والتأهيل
علي أداء العمل في الأرياف السودانية سواء كان ذلك في بيئة الزراعة أو بيئة الرعي.
إن أية إستراتيجية للنهضة الاقتصادية لابد
لها من الانطلاق من أسفل إلي اعلى Bottom to top . وهذا يعنى أن ترتكز علي مفاهيم تسعى للتشغيل
الكثيف للسكان ومحاربة البطالة . والاقتراب من هدف التشغيل الكامل للقوي المهيأة
للعمل . وتسعى في ذات الوقت لرفع ناتج العمل من خلال مضاعفة الإنتاجية إضعافا
مضاعفة . (فالإنتاجية في السودان سواء كانت زراعية أو صناعية تقع في ادني درجات
السلم). وهذا يعنى التركيز علي التعليم ذى البعد الوظيفى التطبيقى الذي يهدف إلي
تعليم أهل الأرياف كيف يؤدون الأعمال علي الوجه الأمثل Know
how?. بيد
أن نقص الطاقة ونقص المعرفة ليسا وحدهما المسئولان عن ضعف التشغيل في الأرياف وضعف
الإنتاجية فيها. فالموارد الأساس مثل توفر المياه للزراعة أو الرعي عنصر آخر. ولئن
كان توجه الحكومة نحو السدود وحصاد المياه يمثل تحركاً في الاتجاه الصحيح فان
تسريع الحركة ومضاعفتها باتجاه تحقيق الاستقرار للرعاة وتوفير المياه للزراعة
يتوجب أن يحتل مركزاً متقدماً في أولويات الدولة. وتحقيق الاستقرار للرعاة بتوفير
المياه سيدخل الإنتاج الحيواني دائرة الاقتصاد الفاعل. ذلك أن الاستقرار سيولد
احتياجات جديدة ويصنع استهلاكاً متصاعداً مما
يغير في التقاليد والمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بمهنة الإنتاج
الحيوانى . فتتضاعف الإنتاجية القابلة
للتداول الاقتصادي وللتصدير. كذلك فان إقامة السدود وتوسيع عمليات حصاد المياه
سيوسع الرقعة الزراعية بصورة تنقلها من الاقتصاد الكفائى إلي الاقتصاد النقدى.
الحرمان الائتمانى:-
ومثلما أن توفر بعض الموارد كالمياه يشكل ضرورة قصوى
للتنمية الريفية. فان إخراج أهل الريف من دائرة المحرومين من الائتمان والتمويل
المصرفي يجب أن يصبح هدفاً مهماً لتسريع
التنمية الريفية. فمن المعلوم أن 15% فقط من أهل السودان يتعاملون مع المصارف . وأن
اقل من نصف هؤلاء فقط هم من يحظون بخدمات التمويل والائتمان المصرفى . بينما نسبة 80%
من النسبة المحرومة من تلك الخدمات تعيش
فى الأرياف الزراعية أو الرعوية. وعواقب مثل هذه الحقائق لا شك ستكون مريرة. فان أي عمل اقتصادى يقتضى قدراً من المال يتجاوز
الحاجات الاستهلاكية المباشرة. ولذلك فلابد من إستراتيجية قومية عاجلة بالاستفادة
من التجارب العالمية لإخراج الغالبية
المحرومة من دائرة الحرمان التمويلي The
Unbanked Majority Banking. وهنالك تجارب ناجحة في بلدان العالم الثالث مثل بنغلاديش
والفلبين وكينيا . والبلدان النامية مثل البرازيل والهند في مجال المضاعفة السريعة
لإعداد المتعاملين مع المصارف من خلال تجارب الصرف الاليكترونى ونقاط البيع
واستخدام الموبايل لانجاز الخدمات المصرفية. وقد درس بنك السودان تلك التجارب كما
أجرت عليها منظمات الأمم المتحدة دراسات للنظر في إمكانية نقل تلك التجارب للسودان
. وبخاصة استخدام الهاتف السيار لربط الشرائح الفقيرة بالمصارف . وتوفير خدمات
التمويل والتأمين للفقراء من خلال الوصل بين "التمويل الأصغر"
وتكنولوجيا المعلومات ووسائط الاتصالات . وقد أظهر السودان اهتماماً كبيراً
بالتمويل الأصغر إلي الدرجة التي مضى فيها لإنشاء مجلس أعلى برئاسة رئيس
الجمهورية. بيد أنه لا تزال توجد عوائق كثيرة . وربما تردد في النهضة التنظيمية
التشريعية للتوسع في عمليات التمويل الأصغر . وتقديم الخدمات المصرفية من خلال الهاتف السيار .
وبخاصة وقد أصبح السودان الدولة الأفريقية الثالثة في استخدام الهاتف السيار . وتجاوز
الاستخدام 27 مليون مشترك مع شركات الاتصالات. و فى مطلع هذا العام أُعلن من خلال ورشة نظمتها شركة السودان
للخدمات المالية أن بنك السودان سوف يسمح
باستخدام الهاتف السيار في التعامل مع المصارف في منتصف العام الجاري . وذلك بعد انجاز التشريعات والترتيبات اللازمة
لضبط مثل هذه المعاملات.
ولا شك أن توسيع الخدمات المصرفية من خلال التمويل الاصغر
واستخدام الهاتف السيار المصرفى سوف يضاعف عدد المتعاملين مع المصارف . ويزيد عدد المستفيدين
من خدمات الائتمان والتمويل المصرفي. والتجربة الكينية أثبتت أن عدد المتعاملين مع المصارف قفز في
ثلاث أعوام من الفترة من 2006 – 2009 من
15% الي 70% . وإذا أستطعنا في السودان أن نحقق مثل هذا
النجاح فان خيره سيكون عميماً علي النظام المصرفي وعلي فقراء المواطنين في
آن واحد. ومثلما يمكن استخدام الهاتف السيار في توسيع المعاملات المصرفية فهو يوفر
وسيطا جيداً لنقل المعارف الضرورية التى تنقل للمزارعين والرعاة من أهل الريف افضل
التجارب والممارسات في اداء الاعمال ((الحزم التقنية )) والتوجيهات المهمة للثقافة
الصحية والغذائية. ونحن لا نتحدث بذلك دون استناد لتجارب ناجحة فى بلدان العالم ففى
بلد مثل البرازيل حيث أُستخدم الهاتف السيار في تطوير قدرات وملكات الريفيين (وأغلب
أولئك ذوى حظ محدود او غير موجود من التعليم ) حقق ذلك البرنامج نجاحاً مبهراً تحاول
دولة مثل كينيا أن تحتذيه بعد نجاح تجربة M-Pesa
في مجال توسيع دائرة التعامل مع المصارف عبر الهاتف
السيار . ولذلك نشأت خدمات توجيهية في مجال التعليم والصحة تستغل
فرصة التواصل الواسع التي يتيحها الهاتف السيار لتوصيل معلومات وتوجيهات محددة
لجمهور معين . يُرجى أن يستفيد منها
لتطوير ممارسته لتبلغ لافضل الممارسات المتعارف عليها فى المهن المختلفة . أننا
نزعم زعماً يقارب الحقيقة إن لم يطابقها أن أهل السودان الريفى منهم والحضرى ذوى
استعداد عال للتعلم والاستفادة من التعليم والتدريب . ما كان ذلك التعليم والتدريب متوافقاً مع ما
يعتقدونه صحيحاً أو ثبت أنه يحقق المصالح والمنافع المرئية لهم.
ولذلك فعلينا الشروع في ادارة حوار كبير وكثيف حول الاستراتيجية الشامله لمكافحة
الفقر في الارياف . وتحقيق التنمية الريفية المتسارعة فأنها هي الوصفة الأسرع
لإزالة كثير من أسباب الفقر وأعراضه.
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق