الأحد، 29 يناير 2012

أفكار حول التعليم الجيد (2)



تحدثنا في المقال السابق عن العلاقة بين التعليم Education والتعلم Learning  وعلاقة ذلك بجودة التعليم. وذكرنا أن العوامل التي قد تؤثر في جودة التعليم كثيرة منها ما يتعلق بالبيئة المدرسية او الموارد المتوفرة للوسائل التعليمية وسوى ذلك . بيد أن ما يؤثر تأثيراً بالغاً علي مستوي جودة التعليم هو ثلاثية (المعلمين-المتعلمين-المنهج) . وذكرنا أن طائفة المعلمين تشمل الأبوين والمدرسين بالمدرسة ثم المدرسين عبر الوسائط التعليمية التي تعزز جهد الاسرة والمدرسة معاً . وعنينا بالمتعلمين تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات والمتلقين للعلم عبر المسافة من غير مرتادي المدارس والجامعات . وعنينا بالمنهج محتواه وطرائقه ووسائطه . فطرائقه أسلوبه في التوصيل وبالمحتوي مادته العلمية وبالوسائط نعني الوسائل الاتصالية والمادية المستخدمة لتوصيل المعلومات . ابتداء من لوحات الكتابة الي شاشات العرض والحواسيب وغير ذلك من الوسائل والوسائط المعتادة او المحدثة.
شراكة التعليم:
والتعليم من حيث الاداء شراكة بين المجتمع ممثلاً بالدولة والأسرة والمدرسة . واذا لم تفلح هذه الشراكة في التوافق والتكامل فلا سبيل لتحصيل اعلي الدرجات في متدرجة جودة التعليم . والمجتمع يأتي أولاً ممثلاً في الأولوية التي يفردها للتعليم وفي الفلسفة التي يتبناها . والاستراتيجية التي يخططها للتعليم ولتحقيق مجتمع المعرفة. لأن الغرض الرئيس للعملية التعليمية هو إنماء العقل وتعزيز شخصية الفرد وحضوره الاجتماعي . وتحقيق التوافق بينه وبين محيطه الفكري والثقافي والاجتماعي . ليتمكن من امتلاك القدرة علي ترقية مستويات حياته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية والروحية.  والأبوان هما أول المعلمين لأن التعليم يبدأ منذ تفتق الوعي في لحظة الميلاد. ولئن كنا لا ندري حتي اللحظة الراهنة كيفية اكتساب الطفل الوليد للمعلومات وللخبرات التي تمكنه من النمو المتكامل عقلياً وجسدياً , فأننا نعلم علم اليقين أنه يحوز علي تلك الملكة منذ لحظة الميلاد الأولي أو ربما قبل الميلاد علي نحوٍ ما. وما أسماه جون لوك بالافكار الفطرية ربما تكون بعض مكتسبات الأطفال العلمية في مرحلة ما قبل الميلاد . فطرائق تلقي العلم والمعرفة لا تزال محل سجال واسع بين الفلسفات والنظريات المتنوعة . ونحن نتعلم مما نقرأ فى الكتاب العزيز أن العلم والبيان مقترنان بالخلق . ومستمران مع تجديد الخلق باستمرار الحياة الي لحظة الممات . فنحن نقرأ (الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الإِنسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ ). وعلم القران الذي هو علم البيان وعلم الأكوان سابق لخلق الانسان . ثم ان خلق الانسان مقترن بغير فاصلة مع تعليمه البيان . أي القدرة علي الفهم والتفهيم. وليس العلم إلا تلك القدرة علي الفهم (التعلم Learning) والقدرة علي التفهيم (التعليمEducation)، فأنسانية الانسان بداية وغاية متصلة اتصالاً وثيقاً بترقيه العلمي في علوم البيان وعلوم الأكوان.
الوالدية الجيدة و التعلم:
 والوالدان هما اللذان جعلهما الله شركاء في اتمام خلقه الذي خلق من خلال التزاوج . ثم التناصر والتعاضد لحفظ وانماء النسل حياة وعقلاً وأمناً وأسباباً مادية للحياة. والأم لا تمد الطفل بحليبها فحسب بل بحنانها وبيانها أي مشاعرها وخبراتها الحياتية . والوالد الأب شريك في ذلك إن لم يكن منذ اللحظة الأولي فبعد ذلك بقليل. ولذلك فان الوالدية علم يتوجب أن يعيره المجتمع اهتماماً عظيماً. فالوالدية العظيمة هي التي تصنع الأفراد العظماء والافراد العظماء هم من ينشئون الأمم العظيمة . وللوالدية دور كبير ومهم في التعليم . وهذا الدور ليس مرتبطاً بالضرورة بمستوي التعليم النظامي الذي يتحصله الوالدان بقدر ما هو مرتبط بالثقافة والخبرة والكسب الذي يمكن أن  يكونا قد تحصلاه ليصيرا أبوين صالحين. وكم من أب متعلم وكم من أم متعلمة يتواضع مركزهما في الوالدية الصالحة إلي درجات أدني مما قد يحصله آخران أقل تعليماً وأكثر فهماً وتوفيقاً لما يتوجب أن يكون عليه الوالد الصالح. والوالدان الصالحان هما الذين يوفران دعماً مستمراً لأولادهما . وذلك بالإسناد المستمر والتحفيز والحب المبذول بغير مكيال ولا ميزان. وقد يسهم الوالدان في التدريب والتعليم المباشر لأولادهما ولكن دورهما الأكبر ليس ذلك بل الدور الأكبر هو تشويق أولادهما وتحبيبهم في العلم . بتعزيز ثقة الأبناء في قدراتهم وتنمية ملكاتهم في التعبير عن أنفسهم بطلاقة بغير توجس ولا تردد . وتشجيع حب استطلاعهم لا قمعه وحفز نزوعهم للتساؤل لا ردعه . ودفعهم للتجريب لا صدهم عنه .  ان الدور الأكبر للوالدية الجيدة هو تعزيز رغبة الطفل فى التعلم (Learning) من خلال تعويده علي لذة الاكتشاف والفهم. فلئن كان الدور الأكبر للمعلمين بالمدرسة هو التعليم فان الدور الأكبر للوالدين هو تعزيز القدرة علي التعلم.  ببناء ثقة الطفل في نفسه وعقله وإنماء حبه للتعرف والاكتشاف . وجعل ذلك سبيلاً لإزكاء تقديره لذاته ولقدراته. وقد ثبت أن الأسرة المثقفة المتعلمة ترتفع فيه احتمالات نجاح الأبناء إلي نسب عالية . ليس بسبب ما تحصلته من علم ومعرفة وثقافة بل بسبب التقدير العالي في الأسرة للانجازات الفكرية والعلمية .  مما يشكل حوافزاُ متعددة لرغبة الطفل وقدرته علي التعلم. ولاشك إننا نملك اليوم من الوسائل والوسائط التي يمكننا بها ترقية الوالدية الجيدة من خلال التوجيه بوسائط الإعلام ومن خلال التوجيهات المباشرة عبر الوسائط الحديثة مثل الهواتف السيارة , عبر الرسائل القصيرة والرسائل المصورة , وعبر برامج خاصة يجري اعدادها وفق مناهج  مخصوصة يمكن تقديمها في فصول المدارس للإباء أو عبر المسافة بواسطة شبكة المعلومات.

التعليم المنزلي Homeschooling
        ولأن الناس قد أدركوا أهمية دور الوالدية الصالحة في تحسين جودة التعليم فقد غالي البعض حتى دعا إلي إلغاء المدرسة التقليدية . والاكتفاء بالتعليم المنزلي بواسطة الوالدين أو بواسطة معلم خصوصي Tutor. وهؤلاء يقولون أن رغبة الطفل في التعلم في المنزل تتضاعف اضعافاً مضاعفة لأن المنزل هو محضنه الطبيعي الذي يجد فيه الراحة والأمن ويشعر فيه بالثقة والاطمئنان . وثانياً لأن تنميط التعليم النظاميStandardization of the education  لا يراعي الفروق في الشخصية والإمكانات والاستعدادات المتفردة للطفل. والحساسيات الدقيقة التي تُعين أو تعوق التعلم . ثالثاً يزعمون أن التربية الأخلاقية والدينية تكون أفضل ما تكون في التعليم المنزلي . رابعاً يقول هؤلاء أن التعليم العمومي قد تدني كثيراً بسبب نقص الموارد . وأدى إلي عدم العناية المخصوصة المبذولة لكل طفل علي حدةٍ . خامساً يقولون أن المدارس والرحلة إليها قد أصبحت مصدراً  لمهددات لسلامة الطفل . وربما لصحته الجسدية والنفسية. وهذه الأسباب جميعاً لا تفتقر إلي الوجاهة ولكنها أغفلت البعد الاجتماعي وتنمية  شخصية الطفل في بيئة الأنداد . وكذلك أغفلت أهمية التحديات التي يواجهها الطفل في الرحلة للمدرسة وفي المدرسة وأهميتها في تطوير الشخصية . ولم تنتبه إلى أن الرعاية الزائدة والحماية المفرطة قد تؤدي إلي هشاشة شخصية الطفل . وإن أدى تعزيز ملكة التعلم إلي تفوقه العقلي. لا شك أن تشريعات غربية عديدة في البلاد التي تفرض الزامية التعليم بالقانون قد سمحت بالتعليم المنزلي . بيد أنها فرضت بعضاً من التنظيم والقواعد العامة التي تشمل الزامية المنهج الدراسي . وكذلك إلزامية قواعد تقويم التقدم الدراسي والإشراف من قبل سلطات تربوية. ولا شك أن اتساع خدمات الشبكة الاليكترونية واتصالها المباشر  بما يسمى Online Schooling قد عزز من فرص التعليم المنزلي. لان التعليم المنزلي بعد دخول (التعليم عبر المسافة) قد اصبح شراكة بين الأبويين أو المعلم الخصوصى والمعلمين عبر المسافة فى الشبكة الاليكترونية بوسائلها الايضاحية الهائلة . ومقدرتها الفائقة في وضع منهج متطور للتعليم المنزلي. وقد ذهبت حكومات ومؤسسات تعليمية وجامعات الي اعتماد التعليم المنزلي باسناده عبر المسافة بديلاً مستقبلياً للمدرسة التقليدية. ونحن لا نذهب كل ذلك الشوط ولكننا نؤيد دوراً اكبر للتعليم المنزلي . وخاصة بواسطة الأبوين وبالاستعانة بالتعليم عبر المسافة لتهيئة الطفل للدراسة بالمدرسة . ولدعم ما يدرس في المدارس ببرنامج دراسي مشوق بالمنزل بواسطة الوالدين وعبر الشبكة الاليكترونية. وقد يستبعد البعض امكانية استفادة بلد مثل السودان في وضعه التنموي الراهن من الشبكة الدولية . ولكن فليعلم هؤلاء ان المشتركين في السودان بالشبكة الدولية قد تجاوز عددهم ثلاثة عشرة مليون مشتلرك . وان الهواتف الذكية التي تشتمل علي الشبكة الاليكترونية قد أصبحت غالبية الهواتف المستخدمة الآن في السودان ما يعني امكانية استخدام الهواتف الذكية في الاسناد الاكاديمي عبر الشبكة.



نواصـــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

الأربعاء، 25 يناير 2012

أفكار حول التعليم الجيد (1)


يشهد الشهر المقبل انعقاد مؤتمر التعليم . وهو حدث ينبغي الا يشغل التربويين ورجالات ونساء التعليم فحسب بل يتوجب ان يكون حدثاً هاماً يلتفت اليه اهل السياسة والاقتصاد . وقيادات المجتمع ومراكز التفكير والتخطيط . فالتعليم هو المتغير الذي تتبعه سائر المتغيرات الأخري لأن التعليم والتعلم هما ما يرتقي بالحياة . ويحيل الفرد الي شخص راشد واثق قادر علي تنمية وسائل الحياة ومعانيها . والتعليم والتعلم ليس لهما حد يبتدئان منه ولا قصد ينتهيان اليه. وقد ورد في الأثر أطلبوا العلم من المعهد الي اللحد . وورد ايضاً اطلبوا العلم ولو في الصين . والصين ههنا رمز لأبعد المسافة والمراد لا زمان للتعلم . فكل زمان فسحة للتعلم ولا مكان بعيد علي طلب العلم فكل المسافة والمساحة ساحة لطلب العلم. والتعليم والتعلم نسق واحد.ولذلك فانه بامكاننا ان نتحدث عن تعليم نظامي ولكن التعليم لا يقف عند  الأطر المدرسية والأعلامية والأليكترونية ليشمل كل جهد لايصال معلومة نافعة لعقل متنبه.
التعليم والتعلم
والتعليم هو عملية توصيل العلم .  اما التعلم فهي قدرة الفرد علي اكتساب معلومات ومعارف جديدة والمواءمة بينها لتشكل رؤيته لذاته وللآخرين وللكون وللحياة. واكبر أهداف التعليم هو تعزيز القدرة علي التعلم والقدرة علي التفكير الناضج الراشد. ولكن التعليم يتجاوز ذلك الي تحقيق مقاصد تربوية . تهدف الي تعزيز تفاعلية وفاعلية الفرد داخل المجتمع الذي يعيش فيه والثقافة التي يتأطر ذلك المجتمع في مثالاتها وامتثالاتها. والتعليم بخلاف التعلم اجتماعي الطابع . فهو علاقة بين معلم ومتعلم . وهو معياري مثالي لأن المعلم يختار ما يراه حسناً او نافعاً او صالحاً ليعلمه للمتعلم . وما هو حسن ونافع وصالح له قيم تتأثر الي مديٍ بعيد بالثقافة وةالقيم الاجتماعية والحضارية في المجتمع المخصوص. أما التعلم فملكه فردية الطابع بالمتعلم Learner  الذى يدرك ويستوعب معلومات ومعارف لا ترتبط بالضرورة بما هو قيمي او اجتماعي . وهدف التعليم هو امداد المتعلم بالموسوعية Well Roundedness  أي سعة الادارك واتساع الأفق . بما ينهض أساساً على المهارات التعبيرية والقدرة الرياضية والمعارف العلمية "الاحيائية والطبيعية ومعرفة علم العناصر" والثقافة والفنون والسياسة والشؤون العامة . وأهم من ذلك كله القدرة علي التحليل والتركيب والتخليق الذهني والعملي. وعندما يقال هذا رجل او أمراة متعلمة فإن الصورة الذهنية التي تتفتق في تصور المخاطب هي لشخص يحوز طائفة من المعارف , دمث وحسن التهذيب . قادر علي التعبير والافصاح شفاهة وكتابة . متابع للشئؤون العامة في المجتمع والسياسة . وقادر علي حل الاشكالات الذهنية والمشكلات العملية، متذوق وربما مبدع للفنون والموسيقي والشعر , وربما يتحدث بأكثر لغة .  فمطلوب التعليم  هو تعزيز الشخصية الواثقة الفاعلة المقتدرة .  ولاشك أن الوصل الوثيق بين التعليم والتعلم وانتشار هذا المفهوم في فلسفة التعليم المعاصرة سببه التعويل أكثر علي الجهد الذاتي في التعلم . واستحثاث الرغبة في الاستزادة من العلم بوصفها أفضل وسيلة لتحقيق أفضل النتائج في توسيع وتعميق دائرة معارف الأفراد. فلم يعد النظر للتعليم وكأنه تلقين للمعارف للناشئة . وربما اجبارهم لهم علي استظهارها . باعتبارها ضرورة من ضرورات الاستعداد للحياة الناضجة بل اصبح التعليم ينظر اليه بوصفة تعزيزاً لرغبة وقدرة الناشئة علي التعلم.  والتطور الذاتي المستظهر باسناد الآخرين ومساعداتهم. ولذلك فقد اختلفت اللغة التي يشار بها للتعليم ولمؤسساته حتى كادت لفظة التعليم تتواري خلف المصطلحات والمفاهيم الجديدة. ففي بريطانيا علي سبيل المثال فان الوزارتين الموكلتين بالتعليم العام والعالي لا ترد في اسميهما مفرده تعليم . فوزارة التعليم العام اصبح اسمها وزارة الاطفال والمدارس والعائلات Department Of Children Schools & Families  . وأما الوزارة الأخري فأسمها وزارة التجديد والجامعات والمهارات Department Of Innovation Universities Skills   . ولا شك ان العنوان يشير الي مفهومات وفلسفة مناهج التعليم واولوياته في ذلك البلد. أما في اسكتلندا فان وزارة التعليم لا تزال تحمل المفرده باضافة التعلم المستمر فأسمها (وزارة التعليم والتعلم المستمر) Department of Education & lifelong Learning . وقصدنا من هذه الالتفاته الي الاشارة للتركيز المعاصر علي مفهوم التعلم Learning  . وتعزيز الرغبة والقدرة علي التعلم باعتبار ذلك وسيلة لاستحاشة القدرات الذهنية والمهارات الكامنة في كل فرد من افراد المجتمع.
التعليم الجيد هو الرافعة:
        والتعليم الجيد هو الرافعة التي ترفع الأمة الي مراقى النهضة وسبل التقدم، فلئن كان الناس يشتكون من التأخر الحضاري والتخلف العلمي والتقني مما يورث الامة عجزاً اقتصادياً . ويعرض سيادتها لاستئساد الأمم القوية فأنه لا سبيل لاكتساب القوة والمنعة الا بالتعليم الجيد. وفي مؤتمر التعليم المقبل ربما يحتاج الناس للحديث عن توسيع التعليم . واستكمال الاستيعاب ليغطي كل التلاميذ في عمر الدراسة النظامية . وربما يتحدثون عن الاجلاس والبيئة المدرسية وغير ذلك . وكل هذا مهم ولا يمكن اغفاله ولكن مركز السجال والتداول ينبغي ان يكون عن جودة التعليم . وجودة التعليم ليست متصلة اتصالاً وثيقاً بالضرورة ببيئة المدرسة أو الأجلاس ولاشك ان ذلك يؤثر فيها . ولكن ما يؤثر تاثيراً  بالغاً فى جودة التعليم هو ثلاثية (المعلمون -المتعلمون - المنهج) . هذه الثلاثية يتوجب ان تكون موضع التركيز والتفكير العميق . وان تحظى بالمقاربات الذكية والحلول المبدعة العملية. ونقصد بالمعلمين الشركاء في عملية التعليم . وأول هؤلاء من حيث الاهمية هما الأبوان Parents   . ثم المعلمون بالمدرسة ثم المعلمون عبر الوسائط التعليمية التي تعزز جهد الاسرة والمدرسة معاً. ونعني بالمتعلمين التلاميذ بالتعليم العام والطلاب بالجامعات والمتلقين للعلم عبر المسافة من هؤلاء وممن سواهم من غير مرتادي المدارس او الجامعات . ونعني بالمنهج محتواه وطرائقه ووسائطه وبالمحتوى نعني مادته اللغوية او الرياضية او العلمية او النشاط المتصل بذلك كله . وبطرائقه نعني أسلوبه في توصيل المعلومات والمعارف وتشكيل المفهومات وتعزيز الخبرات والقدرات. ولا شك ان ذلك كله يتوجب أن يتدرج في فلسفة هادية ورؤية موحدة واستراتيجية معتمدة للتعليم العام والعالي. ولاشك ان معارف الآخرين وخبراتهم ستكون عظيمة الفائدة لدي التداول حول تطوير جودة التعليم .  بيد أن ما نريده نحن يأتي اولاً . ونعني بما نريده نحن ما يلائم معتقداتنا وثقافتنا واحوالنا النفسية والمزاجية والاجتماعية . واوضاعنا الراهنة فليس هنا تطبيق جاهز للاستخدام في تطوير جودة التعليم . وان وجد فسيكون مثل زرع الأعضاء في جسم انسان قبل ملائمتها له ابتداءً. فليس ما أجدي في بلد ما بقادر علي تحقيق ذات النتائج في بلد آخر . ولعل أهم التطورات في نظريات التعليم المحدثة هي ملاحظتها للفروق والاستعدادات وتعويلها علي استجاشة العبقرية الخاصة لكل فرد من الأفراد بله أمة من الأمم.



نواصـــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

الإسلاميون والمسألة الإجتماعية (3)



ذكرنا في مقال سابق أن محاربة الفقر لم تتموضع موضعها الأنسب على رأس أولويات الحركة الإسلامية وتطرقنا إلى تجربة لولا دي سيلفا بين عامي 2003 – 2011م في محاربة الفقر وكيف أن نسبة الفقر في البرازيل قد انخفضت من 22% إلى 7% في العام 2009م ، ونوهنا إلى أن الانقاذ كان لها مقاربات في قضية دحر الفقر تمثلت في الزكاة والتأمين الصحي ثم التمويل الأصغر بيد أن هذه الجهود لابد لها من تفكير مبدع ومبادرات جرئية وأهم من هذا كله إرادة سياسية تستعين بالله على دحر الفقر إلى أبعد مسافة ممكنة إلى الركن القصي في المجتمع السوداني.
الفقر الريفي والفقر الحضري:-
            والفقر فقران فقر ريفي في الأرياف والبوادي . وهو لا يتصل بالضرورة  بنقص الموارد بل  بسؤ إستغلالها . فكم من حائز على عشرات الرؤوس من الماشية وهو يعيش عيش الكفاف لأن ما يملكه لا يُستغل للارتقاء بمستوى المعيشة بل للإرتقاء بالوضع الإجتماعي . وكم من صاحب أفدنة من الأرض كثيرة لا تكاد تخرجه من العسر الإقتصادي . فهو يُعيش عيش الكفاف لأنه لايجهد في إستخراج أفضل ما تعطيه الأرض ، وكل هؤلاء راضون بمعاشهم لا يستشعرون الحرمان . لأنهم جميعاً سواسية في فقرهم يتكافلون ويتقاسمون القليل وبه يقنعون . بيد أن الفقر في الحضر ليس مثل ذلك فهؤلاء أناس قادتهم ظروف الجفاف أو النزاعات أو طلب التوسعة في الرزق إلى المدائن ولكن  أبواب الأرزاق ضاقت عليهم في الحضر بأكثر من ضيقها في البادية والريف ،وأفتقدوا روح التقاسم والتكافل. فالمال في المدن مهما كثر أبتلعته الحاجات الإستهلاكية المتكاثرة . فلا يكاد يفيض عن حاجة أهله ليصل نداه إلى مسكين ذي مسبغة أو فقير ذي متربة. ولذلك فان الفقر الحضري مقترن بالشعور  بالحرمان محتقن بالجسد والشنآن .  ففي الحضر يلتهي الناس بالتكاثر فلا يكادون يسمعون لجائع أنة ولا لفقير شكاية. ولذلك فأنه لا غرو أن كانت الحرب على الفقر الحضري هي الحرب الأولى  التى يتوجب أن يخوضها الباحثون عن صد طائلة الفقر ودحر غائلته.
الحرب على الفقر الحضري:-
            التشغيل هو أفعل الوسائل في دحر الفقر الحضري. ولذلك فأن سياسات التوسع في تشغيل العاطلين عن العمل رجالاً ونساءً متعلمين وغير متعلمين . خريجين وغير خريجين هي ما يجب أن تكون الأولوية القصوى فى سياسات الدولة الاقتصادية ، فالعمل هو باب الكسب الأوسع وأفضل الكسب ما كان أنتاجاً يفلح الأرض فيستخرج خبئيتها أو عملاً صناعياً أو حرفياً يُربي كل أصل مالي بقيمة مضاعفة بالعمل التصنيعي أو الحرفي . وكل ذلك متاح في المدن. بيد ان قطاع الخدمات والتجارة هو أوسع القطاعات في المدائن . وهو باب يمكن ان يتسع لتشغيل مئات الآلاف من سكانها لا يحول دون تشغيلهم إلا الاختلال الكبير في معادلة التمويل والأئتمان. ففي السودان وبخاصة في المدن فان خمسة عشرة بالمائة فقط هم من يجد حظوة التعامل مع البنوك . وأقل من هذه النسبة بكثير هم ما ينعمون بالتمويل والضمانات المالية البنكية. وإذا أردنا توسيع دائرة التشغيل فلا مندوحة من قلب هذه المعادلة على أقل تقدير . ولا يمكن قلب هذه المعادلة إلا بادخال غالبية السكان ليكونوا متعاملين مع المصارف . وقادرين على الحصول على التمويل المناسب لدفع أعمالهم واشغالهم منها . والجواب معلوم معروف وهو التوسع في التمويل الصغير والأصغر والمتناهي الصغر . والاستفادة من تجارب الدول الناجحة في هذا المضمار .
والتجربة البرازيلية تقف شامخة وكذلك التجربة في الفلبين وفي بنغلاديش . ودولة جارة حققت نجاحاً سريعاً في هذا المضمار  وهي دولة كينيا . والتي استخدمت بنجاح الهاتف السيار ليكون صلة الوصل بين ملايين الكينيين وبين المصارف .وبينهم و شركات التأمين وشركات الخدمات الصحية وغيرها . بحيث لم تمض خمس سنوات حتى أصبح 70% من المواطنين ممن يتعامل مع المصارف . وذلك في الفترة من 20072012م حيث حققت تجربة M-PESA (النقود الجوالة) نجاحاً باهراً أذهل كل المراقبين . وأتاح للمصارف الحصول على تمويل هائل من فقراء المواطنين . وأتاح لقطاع واسع من الفقراء الحصول على قروض صغيرة ميسرة لإنجاح مشروعاتهم الصغيرة التى ما كان لها ان تجده لولا الأفكار المبدعة الجرئية.
            ولئن كان بنك السودان المركزي قد احتجز نسبة 12% من موارد المصارف للتمويل الأصغر فان ذلك وحده لن يحقق النجاح . فموارد المصارف محدودة بمحدودية المتعاملين معها . فلابد من إبتداع الوسائل التي تدخل الملايين إلى عالم التعامل المصرفي . وقد اكتشفت الفلبين وبنغلاديش والبرازيل وكينيا هذا السر هو استخدام الهاتف السيار (محفظة إليكترونية)بوصله مع حسابات مصرفية . وباتخاذ تلك الحسابات وسيلة لضمان القروض الصغيرة. وقد أعد البنك المركزي دراسات عديدة لإدخال هذه الخدمة ولكن الأمر يقتضي من الارادة قدراً مكافئاً لما يقتضيه من الدراسة والفحص والفهم.
بنك الطعام:-
            ولئن كان التمويل الأصغر وسيلة ناجعة لتشغيل الفقراء وتمكينهم من التحول لمستثمرين صغار فأن من الفقراء من يعجزه الكدح والكسب . ولذلك فلابد من دعم هؤلاء دعماً مباشراً. والإكتفاء بالزكاة لدعم هؤلاء لن يجدي فان في المال حقاً غير الزكاة وهو حق يتجاوز الزكاة. وقد ذكرنا في المقال السابق كيف ضرب لولا دي سيلفا سلع الأغنياء بالضرائب ليعود بعائدتها منحاً مباشرة تُعطي للفقراء في ما عرف بمنحة العائلة. ويا ليت الحكومة التي وضعت قائمة سلبية بالسلع الممنوع استقدامها قد سمحت بدخول هذه السلع وأمثالها من السلع الكمالية . ولكن بعد مضاعفة الرسوم الجمركية عليها لتعود عائدة تلك الرسوم الجمركية منحاً مباشرة للأسر الفقيرة. ولئن كان منح المال وسيلة من وسائل دعم الفقراء فان العون بالطعام فكرة أخرى عظيمة ناجحة وناجعة تمثلت في انشاء بنوك الطعام. وفي بلد مثل بلدنا تهدر فيها فوائض هائلة من الطعام فان انشاء بنوك الطعام فكرة سوف تصادف نجاحاً باهراً. وتتمثل الفكرة في طواف سيارات بنوك الطعام على الأحياء الغنية وأحياء الأسر المتوسطة الحال قبل أن تطوف عليهم سيارات النفايات .  ويطلب من هذه الأسر وضع حاوية صغيرة من فائض الخبز والطعام لتأتي ناقلات الطعام لحملها لبنوك الطعام . حيث تهييء في صورة مناسبة ويعاد تقديمها لأصحاب الحاجة إليها. وقد أذهلت النجاحات الفائقة التي حققتها بنوك الطعام جميع من جربها في شتى أنحاء العالم. ويتوجب أن يجري تثقيف الأسر بحيث يُحفظ فائض الطعام بنية تقديمه لاستهلاكه بواسطة آخرين قد تخرج مسغبتهم مع تخمة الأغنياء الآخرين من ذمة الله ورحمته . لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إيما أهل عرضة باتوا وفيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله) وما أحرى أغنياء الحركة الإسلامية ان ينهضوا لتأسيس وإنشاء مثل هذه المشروعات ، وما أحرى نشطائها أن ينشطوا في انجاحها . فان ذلك من شأنه أن ينفث حياة جديدة في أعضاء الحركة الإسلامية ويملؤها بالرحمة ويفيض عليها بالنعمة والبركة.
الحركة التعاونية:-
            ولئن كان التشغيل والدعم وسيلتان لمناهضة الفقر فان التعاون على تلبية الحاجات المشتركة وسيلة أخرى فاعلة لإضطرار الفقر إلى أضيق السبل . فالحركة التعاونية بإنشاء المزارع الإنتاجية ومزارع الدواجن والألبان والبيوت المحمية وتمويلها بالتمويل الصغير والأصغر وسيلة لمضاعفة الإنتاج اضعافاً مضاعفةً. والحركة التعاونية لإنشاء محلات التوزيع والبيع بالتجزئة للأحياء وعبر السيارات المتنقلة تجارب فاعلة خاضتها دول أخرى وشهدت نجاحها الباهر. فتأسيس سيارة متحركة لخدمة أهل الحي وتموينهم بالسلع الضرورية من خلال الجمعية التعاونية للحي . ثم تمويل هذه الجمعية التعاونية عبر التمويل الأصغر بضمان جماعي من الجمعية التعاونية يضمن للمصرف ماله ويوفر السيولة اللازمة للحصول على السلع . ويضمن الحصول عليها لأعضاء الجمعية التعاونية باسعار مناسبة. ونحن إذ نذكر ذلك لا نذكره على سبيل الإبتداع ولكنها تجارب ناجحة وراسخة في دول عديدة تشبه أوضاعها أوضاعنا وظروفها ظروفنا . بيد أن المالكين لأمر السياسة والقرار يتوجب عليهم التحلي بالجرأة والشجاعة والقدرة على تجريب الأفكار الوليدة وارتياد الآفاق الجديدة فمن وراء الأفق تمتد عوالم رحيبة من النجاح والمسرة الباهرة.
                                                   نواصل

الأربعاء، 18 يناير 2012

حديث المذكرات بين الأمس واليوم


د. أمين حسن عمر
Aminhassanomer.blogspoit.com
          إتصل بي ثلة من الرفقاء والأصدقاء من أهل مهنتنا الصحفية يسألون عن مذكرة أعدتها وقدمتها طائفة من الإسلاميين عددهم ألفاً كما يقولون . وأن المذكرة تطالب بالإصلاح وتدعو إلى محاربة الفساد وإلى إعمال المؤسسية . وكانت إجابتي أنني لم أسمع بهذه المذكرة . وأن كنت سمعت قبلها بمذكرة أعدتها الهيئة البرلمانية للمؤتمر الوطني وحظيت بتداول مستفيض في أوساط المؤتمر الوطني وعلى مستواه القيادي .  كما سمعت بمذكرات اجتماعات قدمت لدكتور نافع وللرئيس .  وكلها تدعو للإصلاح حسب ما يراه من تواضعوا على صياغتها بالوجه الذي قدمت به . ولكنني لم أسمع بهذه المذكرة الألفية التي شغلت الصحف والصحفيين هذه الأيام .  وأني لا عجب من تصوير الأمر ولكأنه أزمة داخل المؤتمر الوطني، فمتى كان التذاكر والتفاكر والتناصح والتشاور أزمة تشغل المناوئين والموالين على حدٍ سواء.  أن اسم المؤتمر الوطني نفسه اسم يتركز على معنى التذاكر والتفاكر والتشاور والائتمار ففيم إذاً العجب أو الاستغراب.
مذكرة ثلة من الشباب:
وكنت بادئ الرأي قد نفيت لمن استفسرني عن المذكرة علمي بها . فهي لم تعرض علي الأمانة العامة للحركة الإسلامية ولم تعرض على الأمانة السياسية أو المكتب القيادي في المؤتمر الوطني . ولذلك قلت لمن سألني أنت أعلم منى بما تسأل عنه.  بيد أننى لن استغرب أن تتقدم طائفة من الشباب بمذكرة سواء للأمين العام للحركة الإسلامية أو نائب رئيس المؤتمر الوطني .  فمن حقهم أن يفعلوا ذلك سواء عن طريق مؤسستهم الشبابية أو الطلابية أو خارج تلك المؤسسة . فالرأي حر يجب أن لا تقيده الأطر طالما أنه يخضع في خاتمة الأمر لحكم المؤسسات التي ارتضاها الجميع.  ومما ورد من مطالب ذكرتها الصحف التي أشارت لتلك المذكرة فإنها أشبه بالاحتجاج منها بالمذكرة.  ذلك أن كثيراً مما ذكرته وذكرت به  إما قواعد مستقرة في الدستور أو قواعد مستقرة في النظام العام للمؤتمر الوطني .  ولكن هؤلاء الشباب ربما قصدوا الإشارة للتقصير في إنفاذ تلك القواعد أو تنزيل تلك المعاني . وهذا مما يدخل في باب المناصحة التي لا يستغنى عنها صاحب سلطة أو مسئولية.  ولكن ما يُعاب على هؤلاء الشباب هو دعوتهم للشفافية وعدم التزامهم بها في إعداد تلك المذكرة . فقد كان من الممكن أن تُعد علناً وفي مكاتب الحركة الإسلامية أو المؤتمر الوطني .  وكان يمكن أيضاً أن يُدعي الناس إلى مناقشتها في هيئة الأعمال الفكرية أو غيرها من مؤسسات التفاكر والمثاقفة في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني.  بيد أن تجربة مذكرة العشرة قد جعلت شعور كثير من الناس يميل نحو اعتبار المذكرات نوعاً من الخروج على المؤسسة وهذا الأمر كان أبعد ما يكون على الوقائع الحقيقية لمذكرة العشرة.
مذكرة العشرة والمؤسسية:
لم تكن مذكرة العشرة خروجاً على المؤسسية بل كانت دعوة لتكريسها وترسيخها. فمذكرة العشرة بدأت بنقاشات مع الأمين العام في أكثر من إجتماع في منزل الشيخ يس عمر الإمام (شفاه الله وأبقاه) ثم في منزل الأخ العزيز على أحمد كرتي وفي الاجتماع الأخير طلب منا الأمين العام بأن نخرج إلى العلن ونقول ما نريد قوله على الملأ ولا داعي للاختباء في أفنية المنازل. 
ثم كانت مسودة مذكرة العشرة الأولى عبر اجتماع عقد في هيئة الأعمال الفكرية شارك فيها أربعة ممن حضروا تلك الاجتماعات . واختلف الرأي بينهم حول إلى من ترفع هذه المذكرة  إلى الأمين العام وكنت ممن يقول بذلك، أم إلى مجلس الشورى الذي يترأسه الرئيس آنذاك . وكان الأخوان سيد الخطيب وعلى كرتي ممن يقول بذلك.  ولكن سواءً رًفعت المذكرة للأمين العام أو لمجلس الشورى فهي تتحرك في مسارات المؤسسة التنظيمية ولا تخرج عنها. لم تكن مذكرة العشرة مؤامرة على أحد ولكنها كانت تدعو للإصلاح التنظيمي ولإعادة رسم العلاقات التنظيمية . ولترتيب العلاقة بين رئاسة الدولة ورئاسة المؤتمر الوطني. وقد يكون كثير من الناس قد نسوا أن هذه المذكرة قد أجيزت بالإجماع في مجلس الشورى بعد تعديلات أدخلت عليها بإقتراح من الأخ ابراهيم السنوسي . ولكن الظنون والشكوك هي التي حولت المذكرة من وسيلة لتعزيز وحدة المؤتمر الوطني وتنسيق علاقته مع الدولة إلى وسيلة لهدم الوحدة وتوسيع الفجوة بين رئاسة الحزب ورئاسة الدولة. ولم يخل الأمر من أطماع الطامعين ومخاوف المتشبسين بحظوظ الأنفس . وجرى الأمر على النحو الذي جرى عليه  ثم أمسينا اليوم نرى أخوتنا ناشطين في معسكر الأعداء وشعارهم علىّ وعلى أخواني وأن لم تبق باقية. وغامت الرؤية أمام بعض الأعين حتى ما عادت تدرك الفارق بين الغضب للنفس والغضب للحق . وضاع أثناء ذلك كثير من المسلمات الوطنية والدينية. وهكذا انتهت الأمور إلى ما لم يتصور أحد ولم يتقصده أحد من الثلة الصغيرة التي تفاكرت وتذاكرت حول تلك المذكرة ولم يكونوا آنذاك من أصحاب المناصب ولا من ذوي المراتب في الدولة ولا الحزب.
حديث الإصلاح – أمس اليوم
كتبنا في هذا المكان مراراً أن الإصلاح ودعوته ليس أمرا عارضاً . وإنما الدعوة للإصلاح هي احتساب لا ينتهي إلى أمد . وهو دأب الأمة الصالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الخير . ولذلك لا يتوجب أن يُلام داعية للإصلاح سواء كان ما يقوله حقاً أم متخيلاً  . فلا خير فيهم أن  لم يقولوها  ولا خير فيمن قيلت له أن لم يسمعها ويأبه لأمرها. ولاشك عندي أن دوافع الشباب الذين تفاكروا حول هذه المذكرة دوافع صادقة . فهم تطلعوا إلى تغيير واسع في الحكومة لم يروه . وتطلعوا إلى مشاركة من الشباب أوسع فلم يجدوها .  وتأثروا كثيراً بحملات المناوئين والمعارضين، ولم يجدوا حملة مضادة من المؤتمر الوطني ترد دعايات المدعين وتصد افتراءاتهم . وتركوا في الفضاء الأسفيري ينافحون الخصوم دون ظهير من الحزب الكبير الذي يسمح لخصومه بالإدعاءات الكاذبة دون أن يخشوا عواقب الكذب والإدعاء والافتراء .  كما أن الشباب الذي يتطلعون إلى الصفاء والنقاء لا يرون جهداً استثنائياً كما يطمعون في مواجهة تجاوزات المتجاوزين وفساد المفسدين . ولذلك حُق لهم أن يطالبوا بإجراءات خاصة حازمة وحاسمة في وجه من يضاربون بأقوات الناس أو من يختلسون المال العام . ومن يتهربون من سداد استحقاقات المصارف وغير ذلك مما يتحدث عنه الناس بحق أو بباطل. بيد أن الشباب عليهم أن يُدركوا أن الإصلاح لا يمكن له أن يتحقق إلا بالتحلى بالوضوح والصراحة والشفافية . وفوق ذلك إحسان الظن بالقيادة التي تقود طالما لم يروا عليها طارئة انحراف أو شائبة فساد . فالتقصير جزء من طبيعة البشر والنقصان جزء من تكوينهم . وإنما يكون الإصلاح مثل شأن اليدين تغسل إحداهما الأخرى.


إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،

الإسلاميون والمسألة الإجتماعية (2)


                د. أمين حسن عمر
Aminhassanomer.blogsprt.com

          تحدثنا في المقال السابق عن تركيز الحركة الإسلامية في السودان على التغيير السياسي والقانوني وضعف تركيزها على التغيير الإجتماعي والثقافي . ولا يعني ذلك أن جهوداً لم تبذل في هذين الصعيدين، ولكن تلك الجهود قصرت عن المأمول ولم تتموضع على رأس أولويات الحركة الإسلامية. فقد كان تنظيم شعيرة الزكاة  خطوة واسعة باتجاه معالجة قضية الفقر . ولكنها مهما اتسعت فان مشوار مكافحة الفقر يمتد طويلاً على الطريق . كذلك فأن الجهود الذي بُذلت لتعميم التعليم الأساس وتوسيع التعليم العالي جميعها خطوات في تعزيز قدرة الفرد على الكدح وكسب العيش . وأن كان التعليم نفسه سبباً في سحب قطاعات واسعة من حقول الانتاج الريفي إلى المدن التي تضيق فيها فرص العمل كثيراً . وكان توسيع الخدمات الطبية والسعي لتعميم التأمين الصحي لأعانة الفقراء على تكاليف العلاج خطوات أخرى مهمة . ولاشك أن مقارنة ما أنجزته الانقاذ إلى جهود من سبقها يضعها في المقدمة ولكن مقارنة ذلك بما كان بالإمكان إنجازه يجعل الكسب مهما أمتلأت به الأعين ضئيلاً ضيئلاً.
الإسلاميون وشعار العدالة الإجتماعية
            كان شعار العدالة الإجتماعية أعظم شعارات الحركة الإسلامية . لأنه أكثر تلك الشعارات التي رفعتها الحركة الإسلامية تجاوباً مع احتياجات الإنسان. ولئن كانت الحركة الإجتماعية الأوربيةSocialist movement  قد رفعت أعظم الأفكار التي أنتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين . وكان لها أثارها المشهودة في كافة أنحاء العالم فإن تلك الفكرة العظيمة قد ذكرت الإسلاميين بماضي المسلمين التليد في التضامن والتكافل الإجتماعي . عبر وسائل ومؤسسات ظلت فاعلة في المجمعات الإسلامية قروناً طويلة مثل مؤسسات الزكاة والوقف والعاقلة كما أثارت في النفوس القيم الراسخة في العقيدة الإسلامية مثل قيم وصل الرحم والاستيصاء بالجار وأكرام الضيف وأبن السبيل. وعندما رفع الاشتراكيون العرب شعار الاشتراكية ناهضهم سيد قطب والسباعي وبابكر كرار بشعارات العدالة الإجتماعية . بل لم يستنكف البعض مثل السباعي وكرار من إستخدام مصطلح اشتراكية لوصف منهج العدالة الإجتماعية في الإسلام . ولكنهم نزهوه عن الالحاد و العلمانية والفلسفة المادية. واليوم ما أشد حاجتنا إلى إحياء شعار العدالة الإجتماعية بقوة ، شعاراً نرفعه في وجه الفقر والمسغبة . وبخاصة ونحن نشهد ارتحالاً هائلاً من الريف إلى المدن . وضيقاً في فرص العمل في الحضر والمدائن التي يتدفق إليها المهاجرون الريفيون مما يعني اتساعاً في دائرة الفقر الحضري.
            ولاشك أن دائرة الفقر الحقيقي تضيق باحراز نسب عالية من النمو . والأرقام تقول أنه قبل انفصال جنوب السودان كانت دائرة الفقر المطلق في السودان 40% وهي نسبة عالية بالمقاييس العالمية . ولكن الفقر الحضري قد تفوق نسبته هذه النسبة . لأن الناس يرتحلون من الريف حيث فرص كسب العيش إلى المدينة حيث تضيق تلك الفرص . وتتسع التطلعات التي لا تطولها آيادي المعدمين الفقراء.
نحو استراتيجية شاملة لمكافحة الفقر
            لئن كان الفقر هو أخطر مهددات الإستقرار الإجتماعي وأكبر معوقات النمو الاقتصادي فلابد من إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر. وقد التفتت الحكومة مؤخراً  إلى أهمية توسيع دائرة الإئتمان ليشمل الفقراء الذين لا يكادون يجدون نصيباً من التمويل البنكي للاستثمار أو الاستهلاك بينما يفوز أغنى الأغنياء بالتمويل حتى لرحلاتهم الخارجية.
            وإهتمام الحكومة بالتمويل الأصغر  جاء خطوة موفقة بذلك الاتجاه . بيد أن التمويل الأصغر لا يزال يواجه عقبات كثيرة لابد من أن تزال عن طريقه .  كما أن الجهاز المصرفي يتطلب إصلاحاً جذرياً ليتلاءم مع مقتضيات التوجه الجديد نحو إدخال الفقراء إلى مظلة الائتمان والتمويل المصرفي. ومهما يكن التوجه نحو التمويل الأصغر موفقاً فأنه لن يؤتي أكله إلا في إطار إستراتيجية شاملة لمكافحة الفقر. ولذلك فان الحاجة ماسة إلى التشاور والتفاكر ثم التوافق حول الإستراتيجية الشاملة لمكافحة الفقر. ولاشك أن في تجارب العالم مندوحة عن التنظير المجرد أو الإجتهادات المتخيلة . فهنالك تجارب في العالم لم يصادفها التوفيق الكبير علينا أن نعتبر بها . وهنالك تجارب ناجحة صادفت توفيقاً مذهلاً علينا أن نطلع عليها وان نتأسى بها.
التجربة البرازيلية في مواجهة الفقر
            والتجربة البرازيلية في مواجهة الفقر أدهشت العالم وأجبرت المتشككين جميعاً على الإعتراف بانجازاتها المذهلة . ففي الفترة بين 2003 – 2009م نما دخل من يصنفون فقراء في البرازيل سبعة أضعاف نمو دخل من يصنفون أغنياء في ذلك البلد. وفي هذه الفترة (ستة سنوات فقط) انخفضت نسبة الفقر في البرازيل من 22% إلى 7% . ويتوقع الخبراء ان تكون قد انخفضت الآن (2012) إلى نسبة 4% وهي نسبة الفقر في أوربا. هذا الإنجاز الهائل وراءه ايمان رجل نشأ في وسط أفقر أحياء ريودي جانيرو  وأدرك بأن الفقر هو العدو الأكبر هو الشيطان الأكبر . ذلك الرجل هو لولا دي سيلفا والذي شهدت فترة حكومته (2003 – 2011م) هذه الإنجازات الإجتماعية والاقتصادية الكبرى. ولم يكن نجاح سياسات مكافحة الفقر في البرازيل نجاحاً إجتماعياً فحسب بل أنه كان السبب الرئيس في إدخال غالبية البرازيليين في دائرة الإنتاج الفاعل . مما تمظهرت آثاره على الاقتصاد الوطني لتكون البرازيل أكبر تجربة للنجاح الاقتصادي فى العقود الأخيرة .  فقد تحولت من أكبر مدين في العالم إلى أسرع الأقطار نمواً في العالم. ولذلك فان ثمرة البرنامج الاجتماعي الناجع والناجح ليس التراضي الإجتماعي فحسب ، بل والنهضة الإقتصادية الشاملة. وللبرازيل تجارب يمكن ان تهديها لجميع العالم في هذا الصدد وعلى رأسها البرنامج الذي يسمى (بولسا فاميلا) (منحة العائلة) . وهي منحة مجانية توفر مواردهامن ضرائب على حزمة من السلع الكمالية التي يستخدمها الأغنياء لتذهب منحاً للأسر الفقيرة. وهي منحة مشروطة بشروط المقصود منها تعزيز التنمية الإجتماعية مثل شرط تعليم الأبناء والمراجعة الصحية الدورية . والأسرة التي تثبت أنها ترسل الأبناء إلى المدارس وتحرص على التحصين الصحي والمراجعة الدورية الصحية تستحق المنحة. وهذه المنحة غير المستردة إلى جانب مشروع التمويل الأصغر هما الذين أخرجا ملايين الأسر من دائرة الفقر ونقلاهم من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى المنتجة. ومشروع التمويل الأصغر البرازيلي هو الآخر من المشروعات الناجحة وهو يسمى Credi Amigo  ( الرفيق الدائن)  أو نحو ذلك . وهذا الرفيق يسعى للفقراء ليقدم لهم التمويل وليعينهم على دراسة المشروعات الصغيرة الناجحة. وهو  إذ يقدم التمويل لا يطلب ضمانة مالية أو عينية وأنما جماعة من المستفيدين متضامنين يضمن بعضهم بعضاً. وقد أنبأني محافظ بنك السودان المركزي أنهم قد نقلوا بالفعل هذه التجربة لتطبيقها في السودان . وهي أشبه بنظام العاقلة أو الكافلة . وهي جماعة أو قبيلة أو فئة تتضامن لدفع الدية (في حالة الديات) أو لمساعدة مريض أو دفع غرامة في حالة التأمين التكافلي . والفكرة هي نقل فكرة التكافل لتصبح ضماناً لإسترداد التمويل في عمليات التمويل الأصغر . وهذه الفكرة أحرزت نجاحاً فائقاً عند تطبيقها في التمويل الأصغر في البرازيل. والمشروع الثالث كبير النجاح هو مشروع التأمين الصحي ، والذي أحرز نجاحاً باهراً في البرازيل لأنها جعلته مشروعاً مختلطاً . فهنالك تأمين صحي تشرف عليه الدولة وغالب هذا يؤهب للفقراء . وتأمين صحي يشرف عليه القطاع الخاص والمؤسسات الاقتصادية ويعمل على أسس أقتصادية وهو في الغالب لتأمين الأغنياء والطبقة الوسطى والعليا. والدولة تتدخل لدعم المؤسسات العلاجية من حيث البنيات التحتية ولكن التأمين الصحي يتكفل بسائر عمليات التسيير لتلك المؤسسات . كما يضمن توفير العلاج والدواء للعملاء من الفقراء والأغنياء على حدٍ سواء.
            لاشك أن في السودان مشروعات قد بدأت في كل هذه المجالات ولكننا نحتاج إلى إرادة سياسية أكبر للانحياز أكثر للفقراء . ولإعادة بناء استراتيجية التنمية الاقتصادية في البلاد لتتواءم مع الإستراتيجية الكبرى لمكافحة الفقر حتى نضطره إلى أضيق الطريق . ولو أمكننا ان نقتله لقتلناه . فقد قال عمر رضي الله عنه لو كان الفقر رجلاً لقتلته. غير أن الفقر ليس رجلاً ولكنه ناتج من عواقب أفعال الرجال . ولو أنا قتلنا الشح والأنانية لكان لنا على الفقر نصرُ مبين (ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون).
                                                                               نواصل



الإسلاميون والمسألة الإجتماعية


                د. أمين حسن عمر
Aminhassanomer.blogspot.com

       صعد الإسلاميون في المغرب لقيادة الحكومة وكذلك في تونس والأمر متوقع أيضاً في مصر وليبيا مما يطرح أسئلة كثيرة حول سياسات الحركات الإسلامية على تنوع مشاربها ومذاهبها لإدارة الحكم في المرحلة المقبلة. وقد كان من قدر السودان أن أبتليت الحركة الإسلامية فيه بقيادة الحكومة في أحرج أوقات البلاد وأصعبها . وهي تعاني الأفلاس والحصار والفوضى الأمنية. ومن يمارى في النجاح الكبير الذي أحرزته الحركة الإسلامية في اخراج البلاد من حال الأفلاس وتحقيق قدر مقدر من الأستقرار الاقتصادي لا يعدو أن يكون مكابراً . ومن يماري في نجاح الأنقاذ في حسم الفوضى الأمنية واستعادة قدرة البلاد على المواجهة ثم بناء السلام لُبنة لُبنة لا يعدو أن يكون مكابراً . ومن يمارى في نجاح الأنقاذ في كسر الحصار  الخارجى بالتوجه شرقاً . وتأمين قدرة البلاد على البقاء والنمو فهو لا يعدو أن يكون مكابراً . ولكن من يمارى أنه في خضم هذا المعتركات ضعف التركيز على قضايا مركزية في فكر الحركة الإسلامية فأنه لا شك يعاني حالة من حالات عدم القدرة على الابصار بالقسم غير الممتلىء من الكوب . وعلى رأس هذه القضايا المركزية تأتي المسألة الاجتماعية والمسألة الفكرية.
ماذا نعني بالمسألة الإجتماعية؟
       نعني بالمسألة الاجتماعية قدرة الحركة الإسلامية على تعزيز حركة التحول الإجتماعي لتحقيق الإنسجام والتفاعل والتناصر بين فئات المجتمع وشرائحه الاجتماعية . بما يفضي إلى تعزيز حركته وقدرته على تطوير الذات وتحسين الأداء بما يتمظهر في القدرة الانتاجية والتصالح والتكافل الاجتماعي. وهذا المقصد العظيم لن يتحقق بترديد القصص عن عهد الصحابة الأبرار . ولا بوعظ الناس ان يعملوا ويجتهدوا وأن يتناصروا ويتكافلوا. وأنما برؤية أجتماعية قادرة على الأبصار بحقائق الواقع الاجتماعي . ومتمكنةً من وصف المعالجات اللازمة للمعضلات والمشكلات الاجتماعية . ومبصرة بالميزات والفرص المتاحة وقادرة على أستثمارها للنفع العام.
       وأهم تلك القضايا الاجتماعية هي قضايا التماسك الاجتماعي ومشكلات الفقر ومواجهة الهيمنة والاختراق الخارجي. ونقصد بالتماسك الاجتماعي قوة الروابط بين سكان أطراف البلاد وأنحائها المختلفة . ومتانة الأواصر والوشائح التي تصل أهاليها وقبائلها وأعراقها ببعضهم البعض . وشعورهم بالتوحد في التوجه والموقف والمقصد . وتفاعلهم وتعاطفهم وتشاركهم الوجداني والشعوري. ولاشك أن الفجوة بين ما يراد وما يُطلب من هذا الأمر جد واسعة . والأدهى أنه يخيل للبعض منا أنها تزداد إتساعاً لا إقتراباً . فما هي الدواعي وما هي الأسباب؟ أن الأسباب التي تدفع بمزيد من التماسك الوطني والاجتماعي بارزة للعيان . فالحراك الإجتماعي الواسع الذي تسبب بالهجرة الداخلية والخارجية وبالتعليم والأعلام ووسائل التواصل والاتصال كلها تدعو لمزيد من الثقة بين الأهالي ومزيد من التماسك . فلماذا هذه المؤشرات التي تتمثل في تمرد بعض النخب في الأطراف. وفي اشتعال الحروب القبلية بأكبر وأكثر مما كان يحدث سابقاً . ولماذا برزت ظواهر الروابط القبلية والجهوية في المراكز الحضرية . وصار للقبائل مجالس شوراها وكأنها التنظيم الجديد الموازي للجماعات الفكرية والسياسية والطوعية . ولماذا تفشت ظاهرة الاحتجاج القبلي والمحاصصة القبلية؟


أخطاء الحكومة وخطاياها!
       قد يحلو للمعارضين نسبة الأمر لخطايا وأخطاء الأنقاذ التي لم يعصمها الله من الخطأ ومن الخطئية ولكن نسبة الظواهر الاجتماعية لما تفعله الحكومة وما لا تفعله مبالغة في المُكنة المتاحة للحكومات في الهندسة الإجتماعية. لاشك أن عدم قدرة الحكومة في التكيف المناسب مع الظواهر باحتوائها ثم معالجتها بالتحوير والتطوير والتوجيه لا يعفي الحكومة من مسئولية تفاقم هذه الظواهر.  ولكن الكسل الفكري أو الغرض الحزبي وحده هو الذي يجعلنا ننسب كل ما لا نحب وما نكره لما تفعله الحكومات وما تمتنع عن فعله عند الحاجة له.
       وأذا عدنا للحركة الإسلامية فالسؤال المنتصب أمامها لماذا لم تستطع أن تكفكف من هذه الغلواء الجهوية والقبلية؟ أمرجع ذلك إلى غياب الرؤية الشاملة والنظرية الاجتماعية الهادية ؟ أم أنه الانشغال باليومي عن المتغيرات البطيئة النسق الخطيرة العواقب؟ فالحركة الإسلامية أرتكبت خطأ لا يمكن ان يُحتسب صغيراً عندما تركزت أنظارُها على التغيير السياسي والقانوني . فأصبح تغيير الأطر السياسية والشرائع القانونية هو همها الأكبر، وتراجع في سُلم الاهتمامات الهم الثقافي والإجتماعي. ومما لاشك فيه أن الذي يريد تغييراً سياسياً وقانونياً قد يُبصر بنتائج مسعاه أسرع بكثير ممن يعالج ثقافة تقليدية وأفكاراً لا تواكب التجديد .ومن يسعى لمناهضة تحيزات متعصبة ومكافحة تقاليد بالية. بيد أن وعورة الطريق ما كان لها أن تثنى طالب التغيير من المضي إلى مبتغاه. ونحن لا نتحدث هنا عن أن خيار تولي السلطة كان خياراً غير صائب أو متعجلاً. ولكننا نتحدث عن توظيف الحركة والسلطة معاً لأحداث التحول الثقافي والاجتماعي المنشود. والحركات الإسلامية التي تتوجه هذه الأيام لتولي مقاليد السلطة في ظرف أفضل من ظروف الحركة الإسلامية في السودان عليها أن تُعتبر بعبرتنا وأن تستفيد من خبرتنا. فأن من الحكمة أن تحذو المثل الصالح وأن تجتنب الأمثولة الطالحة. وأما الحركة الإسلامية في السودان فقد ساعفها الحظ بثقة غالب الجمهور في قدرتها على تعزيز نجاحاتها وأستدراك أخفاقاتها . وعليها أن تفعل ذلك ان أرادت أستدامة حسن الظن بها. وأول هذه الأمور هو الالتفات إلى  الشأن الاجتماعي بقوة . والتعامل معه بُمكنة المجتمع بأسره لا بطاقة الحركة الإسلامية وحدها . مما يقتضي الإستعداد للشورى الواسعة والمشاركة الفاعلة من المجتمع العريض . ونعني بذلك الانفتاح السياسي الذي لا يترك لشانئ عذراً على النكوص من المشاركة . والإنفتاح على منظمات المجتمع المدني بتشجيع تأسيسها وتفعيل أعمالها واشغالها لتكون بديلاَ عن الجهويات والقبليات . والإنفتاح الفكري والثقافي الذي يتباعد عن الأيدولوجيا . ويقترب من الثقافة المتعارف عليها ما توافقت مع القيم الدينية وسايرت القيّم الإنسانية التي أصطلحت علها الأمم والأديان على حدٍ سواء. واحياء المؤسسات الاجتماعية العريقة التي تصل الأجناس والأعراق وتعزيزها وتجديدها . وأعني بذلك الجماعات والطرق الدينية والمحافل الاجتماعية والرياضية . وأحياء العادات الإجتماعية الإسلامية والعرفية التي تعزز روابط المجتمع مثل العاقلة لدفع الديات وتحمل الحمولات . ومثل التكافل في أحياء المناسبات والقسامة في تعويض الجنايات . وأحياء مجالس الأجاويد والمصالحات . وتقديم وتعظيم الصلحاء وذوي الهيئات. والمقصد من التفصيل الآنف الذكر هو أن تستخدم الحكومة سلطتها ونفوذها لتمكين المبادرات الأهلية والمؤسسات الاجتماعية. فبذلك تضع عن كاهلها حملاً مبهظاً وتكتسب به حمداً جزلاً. بيد أن أقوى أسباب تحقيق التماسك الاجتماعي هو الأحساس بالآخر . وتقريب المسافة الجغرافية والمادية والشعورية بين الإنسان المواطن والإنسان المواطن الآخر . ولن يتحقق ذلك إلا بحملة صادقة لمناهضة الفقر المدقع المفجع . ومدافعة الترف والسرف ومراكمة المال لدى القلة بينما تعيش الكثرة الكاثرة في المسكنة والذلة.
نواصل

الشراكة من اجل مكافحة الفساد


د. أمين حسن عمر
Aminhassanomer.blogspoit.com
القرار الذي أصدره السيد رئيس الجمهورية بتأسيس آلية لمكافحة الفساد تحت إشرافه المباشر جعل موضوع الفساد ومكافحته واحدة من أجندة الساعة في التداول العام. وتأتي مبادرة رئيس الجمهورية بغرض محدود لا يغني عن الآليات الأخرى مثل المراجعة العامة ونيابة الثراء الحرام والمراجعات الداخلية وغيرها من الوسائل والآليات الاخرى . وإنما تأتي المبادرة مكملة لتلك الوسائل . وقد تحتاج الدولة إلي مزيد من المؤسسات الرسمية والشعبية لإكمال دائرة محاصرة الفساد ليس فقط بتأسيس المؤسسات ولكن بالسياسات والتشريعات . وإشاعة ثقافة الحوكمة governance  good والتي تعني الحكم الرشيد والإدارة الرشيدة للمال وللمرافق العامة.
آفة مكافحة الفساد:
والفساد آفة كبرى لا سبيل إلا التطهر المطلق منه في مجتمع من المجتمعات أو حكومة من الحكومات أو إدارة من الإدارات . ولكن آفة مكافحة الفساد هم الانتهازيون المزايدون الذين يتمنى بعضهم أن يكون فساد  ليكون حديث عن الفساد . واتهامٌ به وتعميم لسُبته وهذه المزايدة هي التي تنشئ ردة فعل سالبة من الطرف الآخر . وهي إدعاء التطهر والنقاء والتلكؤ في محاربة الفساد والنزوع إلى ستره وتغطيته . و السيد الرئيس من خلال إنشاء آلية على مستوى الرئاسة  قد أنشأ جهازاً ليكون سمعه الذي يسمع به كل حديث صادق أو كاذب عن الفساد . ويكون عينه التي يبصر بها ما قد يسعى البعض إلى تخبئته أو ستره خوفاً على سمعة الدولة أو الحزب وربما  لا يذكر هؤلاء قولة زهير بن أبى سلمى من قديم:
ومهما تكن عند إمرىء من خليقة               وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فأنجع الوسائل لاكتساب الصيت الحسن والسمعة الطيبة هى التصدي بحزم وحسم وسرعة لكل قضية حقيقية من قضايا الفساد . والتصدي للرد بالحجة والبرهان والدليل على كل إدعاء باطل وفرية مفتراة وبهتان عظيم. ولا شك أن الإسترزاق السياسي بقضية الفساد دلالة ذات معني علي فساد السياسة. فما الفساد إلا عدم تحري النزاهة وليس من النزاهة في شيء إشاعة الإفتراء والبهتان للنيل من الخصوم السياسيين. ولذلك فإن أحدى وسائل مكافحة الفساد هو مكافحة الإدعاءات الباطلة وتجريمها . ما لم يكن هنالك أساس قوى للإدعاء أوشبهة مناسبة تبرر الاتهام ، والموازنة ههنا دقيقة للغاية فليس من المطلوب التستر على الفساد أو تخويف الناس من التحدث بأمره . ولكن من الناحية الأخرى فإن مراعاة براءة الذمم من الاتهام الباطل لها ذات الأهمية . ويتوجب أن تُراعى بذات الحساسية.  ومما يدل على تسييس قضية الفساد مبالغة البعض في الأرقام . فإذا ذكر المراجع العام إختلاساً للمال العام بمقدار خمسة مليون جنيه سعى البعض بالتعبير عن المبلغ بالجنيه المتروك فقالوا خمسة مليار جنيه . وشتان مابين نسبة خمسة مليون جنيه إلى موازنة الدولة التي تربو على عشرين مليار جنيه ومابين خمسة مليار. ثم إن أهل الغرض لا يتحرون الدقة فلا يذكرون المختلس من أموال شركات أو مصارف خاصة تشارك فيها الحكومة والمختلس من مال الحكومة . لأن المقصد تجريم الحكومة وإلصاق السُبة بها . ولكن بعض الموالين يقعون في ذات الخطأ . عندما يلجأون للتعبير بالجنيه المتروك ليعظموا من قدر أنجاز صرف عليه خمسة ملايين فيقال خمسة مليار . وكل ذلك ليس إلى النزاهة في شيء فالنزاهة هي تسمية الأشياء بأسمائها والإقرار بالحق لأهله ولو كانوا من الشانئين.
الفساد داء عضال:
ولا شك أن الفساد داء عضال وهو يستشري مع إغراء الآمال الخائبة والتطلعات الزائدة .  ويستقوي بضعف التشريعات ووهن التنظيمات . وانتشار المحسوبية والمجاملة وعدم الصرامة في تطبيق القانون. ولذلك فإن مطلوبات مكافحة الفساد عديدة ومتنوعة. وأولها إشاعة الثقافة الحقوقية بما فيها غيرة المواطن على الحق العام والمال العام . وثانياً استكمال التشريعات التي تحوط الحقوق العامة بسياج متين من الإجراءات الدقيقة.  وتجرم التجاوزات التي تفتح السبيل إلى إهدار أو اختلاس المال العام.  وقد تطورت التشريعات في مجال مكافحة الفساد إلى طور التشريع الدولي . فظهرت اتفاقيات دولية لمكافحة الفساد أهمها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد .  والتي نرجو أن تنهض وزارة العدل بدراستها والتوصية بالتوقيع والمصادقة عليها . فقد صادقت عليها  حتى الآن ستة عشرة دولة عربية وعدد غير قليل من الدول الأفريقية .
دور المجتمع المدني:
والمجتمع المدني شريك رئيس قي مكافحة الفساد . وذلك من خلال تأسيس المنظمات الطوعية في جوانب مختلفة . مثل مراكز دراسات الحكم الرشيد ومنظمات تعزيز الشفافية وغيرها. بيد أن آفة العديد من مثل هذه المنظمات هي تسييسها في كثير من الأحيان . وقد انكشفت سوأة كثير منها بعدما تكشف بعد الربيع العربي من تغطيتها لفساد كبير بالتواطؤ مع بعض الدول . وتصنيف تلك الدول في مراكز متقدمة وأخرى مغضوب عليها أو مجهولة الشأن لديهم في مراكز متخلفة .  ثم انكشف الغطاء فإذا بعض الرؤساء والقيادات في تلك الدول المرضى عنها ناهبون للأموال  بأقدار لا يكاد يصدقها عقل فدولة تونس على عهد بن علي كانت تصنف بما يحتذي به في النزاهة ليس لشيء إلا الرضا السياسي ثم انكشف الغطاء عن الساتر والمستور على حد سواء.  ودولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وهي تتشدق بالحكم الرشيد وبالنزاهة هل كان يخفي عليها أن أموال مبارك بمصارفها وشركاتها وعقاراتها تتجاوز أحد وثلاثين ملياراً .  وهل انكشف لها ذلك بعد الربيع العربي وكان مخفياً طوال عهد مبارك الذي كان أمريكا تباركه ليل مساء. بيد أن إخفاق بعض المنظمات الدولية أو الوطنية في امتحان النزاهة عند تقرير النزاهة لا يمنع من كون المنظمات الأهلية والطوعية وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها في جهود تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد . وليس كل المنظمات دولية أو إقليمية أو وطنية ذات غرض سياسي أو تحيز ثقافي . والمنظمات ذات الصدقية سوف يتجلى صدقها للكافة من خلال منهاجها المتبع ومسئوليها الذين لا يتطرق إلى نزاهتهم كبير شك. ويتوجب على الحكومة في سعيها لمكافحة الفساد تعزيز دور المنظمات الطوعية . والاعلام شريك أصيل فى منهضة الفساد لذلك يحسن بالحكومة الأعانة فى تأهيل وتدريب كوادر إعلامية في هذا الباب . وتيسير الدور الإعلامي في رصد الفساد والمفسدين . وذلك من خلال إصدار قانون لتصنيف المعلومات بحيث تتاح ولا تحجب إلا أن يكون الضرر من أباحتها أكبر كثيراً من الضرر المتأتى من التحفظ عليها . وقانون تصنيف المعلومات يقصد منه أن الأصل في المعلومات الإتاحة والإباحة . وإعطائها لطالبها عند الطلب سواء كان الطالب مواطناً يسعى وراء حقه الخاص أو يحتسب للحق العام . وأولى من ذلك تمليكها لوسائل الإعلام . ولا شك أن إتجاه الحكومة لتبني الحكومة الإلكترونية سوف يجعل المعلومات المتاحة للكافة أعظم بكثير مما هو متاح الآن . وليس هنالك أفضل في مكافحة الفساد مثل العلانية والشفافية . واتاحة المعلومات والإحصاءات والإجراءات والتصرفات لكل عين تبصر ولكل قلم يكتب . وعندما تطلع شمس العلانية على كافة الإجراءات والتصرفات ينحسر الفساد كما ينحسر الظل في رائعة النهار.


إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،


السبت، 7 يناير 2012

الحكومة الفضلى (4)



تحدثنا فى المقال السابق عن اصلاح الجسم الأكبر للحكومة والذي هو الخدمة المدنية وذكرنا فى ذلكم السياق أهمية الارتباط الوثيق بالمواطن . وتبني شعار (أن المواطن غالباً على حق ) مع مراعاة تصغير الهيكل وترشيد التكلفة . ومراعاة العلانية والشفافية في اعمال الحكومة واستهداف أعلي مراتب الجودة . وتحقيق أعلى درجات التنسيق بين المؤسسات الحكومية في سعيها لخدمة المواطن الذي يتوجب عليالحكومة أن تسعي إليه لا أن يسعي إليها.  بيد أننا أسلفنا القول بأن فرصة هائلة سانحة تلوح لتحقيق كل هذه الأهداف بسبب الثورة التقنية في مجال المعلومات . وكيف جعلت هذه الثورة اصلاح الحكومة ليس بالامكان فحسب وانما بتكلفة زهيدة تقل كثيراً عن التكلفات الراهنة التي تبهظ دافع الضريبة.
الحكومة الالكترونية.. ما هي:-
أقصر تعريف للحكومة الاليكترونية أنها هي الحكومة الافتراضية التي تهدف الي تحقيق تواصل وثيق مع المواطنين . وتهدف الي تقديم الخدمات الحكومية لهم علي اختلافها عبر الوسائط الاليكترونية والأدوات التقنية . وأهمها شبكة الانترنت ووسائط الاتصالات المختلفة وأهمها الهواتف المتنقلة . وهي بهذا المعني ليست بديلاً للحكومة الحقيقية ولكنها (انترفيس) وجه آخر للحكومة الحقيقية . تنوب عنها في تحقيق الاتصال وتقديم الخدمات بكفاءة ليس لها نظير في الحكومة العادية. وأهم اهدافها هي تحقيق تواصل كثيف وفاعل مع المواطنين لتقديم المعلومات لهم . وبناء شراكة فاعلة معهم في ادارة الشأن العام وتعزيز الديمقراطية. وهذه الشراكة سيكون نفعها الأكبر القضاء علي الداء الأخطر للخدمة المدنية وهو الفساد . فأن الضؤ الباهر الناجم عن توفر المعلومات  لا يمُكن اللصوص من أن يعسوا في ظلمات غياب الشفافية ليسرقوا مال الشعب. وكما أن الحكومة الالكترونية حصانة ضد الفساد فهي ايضاً وسيلة لتقليل النفقات ورفع التكلفة الباهظة عن كاهل المواطنين.  فمن المعلوم أن مكأفآت ورواتب العاملين بالخدمة العامة تبلغ 70% من مصروفات الدولة . والحكومة الالكترونية بامكانها قلب هذه المعادلة لتذهب 30% للرواتب والمخصصات وتذهب 70 % للخدمات التي من أجلها أستُحدثت الوظائف والمناصب. وكما أن خدمات الحكومة الالكترونية زهيدة فأنها غاية في الجودة . وهي لا تعرف التمييز بين طالبى الخدمات ولا تعرف المجاملة ولا المحسوبية . فالجميع يضغط علي ذات الأزرار ليتحصل  على نفس النتيجة. وأهم ما يكسبه الناس منها ليس المال بل هو الزمن . وما المال إلا ثمرة الكد في الزمن . واكبر تضييع للمال هو تضييع الزمن . والحكومة الالكترونية ستعيد المعادلة الصحيحة لتجعل الحكومة خادماً يسعي للمواطن بخلاف الحال الراهن حيث يسعي المواطن لينال حقه فلا يناله إلا بالجهد الجهيد.  وريما ناقصاً غير كامل وربما عاد بالخيبة والندم. كذلك فان الحكومة الالكترونية سوف تدعم النشاط الاقتصادي والاستثماري كما لم يحدث من قبل . وذلك عبر تسريع الاتصال وتبسيط الإجراء وإبعاد الوسطاء . لتمضي الدورة الاقتصادية في سلاسة وسهولة ويسر.  وتموت اثناء ذلك كثير من ألوان الرشوة والعمولات والفوائد التي لا تدفع إلا من مال الشعب بصورة غير مباشرة . لأن كل ذلك يعود ليصبح جزءاً من تكلفة السلع والخدمات. وتوفر المعلومات بصورة هائلة عبر وسائط الحكومة الاليكترونية سيتيح فرصاً واسعة لجذب الاستثمارات وتطوير السياحة . ورفع الكفاءة المؤسسية للأداء وتحقيق التنسيق الكامل بين مؤسسات الحكومة . فلا يستطيع متهرب من الضريبة أن يفلت منها بالتحايل أو الرشوة . ولا يستطيع أحد أن يحُول مجري الرسم الحكومي من العام إلي الخاص.
الحكومة الالكترونية..الموقف الآن:-
ظل الحديث يدور ويتصاعد عن الحكومة الالكترونية في السودان منذ نحو عقد من الزمان . ولم يأت العمل بمثل قوة القول . ولم يتسارع المضى فى هذا السبيل إلا العام الماضي في ولاية الدكتور العالم يحى في وزارة الاتصالات والمعلوماتية . ونرجو ان لا يكون التغيير الوزاري سبباً في إبطاء تلك الجهود. بيد أن الحديث المبكر  عن الحكومة الالكترونية لم يجُدنا كثيراً . فقد سبقت الي تطبيقاتها حتي الآن ثلاث حكومات عربية . وتهرع في ذات السبل ثلاث حكومات عربية اخري . والسودان رغم ما يتميز به من شبكة اتصالات وبنية تحتية تفوق غالب تلك الحكومات العربية لا يزال متثاقلاً في البدء في التطبيق العملي للحكومة الالكترونية. ولئن كانت الحكومة متمثلة في وزارة الاتصالات قد انجزت الخطة الموجهة للحكومة الالكترونية وبدأت في استكمال بعض البنيات الضرورية لجعل تطبيقاتها ممكنة وآمنة فتلك بداية جيدة . بيد أن الجهد التشريعي التنظيمي Regulative effort لايزال بطئياً وخاصة في جوانب تحقيق الأمن الاليكتروني . والقواعد التنظيمية المالية التي يتوجب ان يضطلع  بتشريعها بنك السودان ووزارة المالية. الأعلام هو الآخر متكاسل ومتثاقل . وربما غير عالم ولا أقول (جاهل) بمغزي وفوائد تطبيقات الحكومة الالكترونية. وللأعلام دور اكبر من دور التعريف بالمشروع بل لابد من استخدام الوسائط الاعلامية لتعريف الشعب بكيفية التعامل مع الوسائط الالكترونية. وقد نحتاج الي حملة مشابهة للحملة الأعلامية التي صاحبت اجراء الانتخابات واجراء التعداد العام لتوعية المواطنين . ورفع قدراتهم في التعامل مع الوسائط التقنية.
الهاتف الذكي للمواطن الذكي:-
أمتداداً للطالع الحسن الذي يلوح لتطوير الحكومة الكلاسيكية إلي حكومة اليكترونية فان التطوير الكبير في الهواتف المتنقلة . وبخاصة التطور السريع والانتشار المذهل للهواتف المتنقلة الذكية smart phone يؤذن بتحول كبير يجعل تطبيق الحكومة الالكترونية اكبر وانجع مما يؤملة الخبراء. فقدرة المواطنين ارتفعت كثيراً في التعامل مع الهواتف المتنقلة بصورة عامة والهواتف الذكية المشتملة علي خدمة الانترنت. وتطورت في بلاد مجاورة خدمات مذهلة عبر هذه الهواتف واشهرها كينيا في استخدام الهواتف للمعاملات البنكية الالكترونية عبر نظام M-PESA أي (النقد المتنقل)Mobile Money  . فقد أدخلت هذه الخدمة الملايين من الكينيين في مجال التعامل البنكي . وارتفعت نسبة المتعاملين مع البنوك من 15% وهي ذات النسبة الراهنة في السودان الي اكثر من 70% من السكان الراشدين في اقل من ثلاث سنوات . وأغرى النجاح الباهر للتوسع في ادخال خدمات الصحة الالكترونية E-health وخدمة التعليم الالكترونية وغيرها في كينيا . واهم الطرفيات المستخدمة في هذا التوسع هى الهواتف المتنقلة. والاحصاءات تدل علي أن انتشار الهاتف المتنقل في السودان مقارب جداً لمستوي الانتشار في كينيا . كما ان البنية التحتية للاتصالات في السودان افضل والسودان بأتي متقدماً في المرتية في استخدام الانترنت علي كينيا . كما انه يأتى متقدماً عليها اقتصادياً بمعايير الناتج الكلي الاجمالي وحصة المواطن في هذا الناتج الكلي الاجمالي. وكذلك فان مستويات التعليم الأولى والعالي افضل في السودان . وكل هذه ميزات تجعل نجاح السودان في ما نجحت فيه كينا مرجحاً. الا ان التجربة الكينية أتسمت بالشجاعة في اتخاذ القرار وانفاذه . والسرعة في انجاز التشريعات والقواعد الضابطة للمعاملات. وأما السودان فلا يزال يرفع قدماً في الهواء ولا يضعها علي الارض. ولا تزال المؤسسات التي يتوجب عليها المسارعة في انجاز التشريعات تتلكأ في هذا السبيل. ولكي لا نغمط أهل الحق حقهم فقد تسارعت في العام الماضي خطي وزارة الاتصالات لتحريك أمر الحكومة الاليكترونية . ولكن الامر أكبر من ذلك . ويقتضي رعاية رئاسية متصلة لأننا وان كنا نتحدث عن الجمهورية الثانية بوصفها الحكومة الأفضل فان الحكومة الفضلي لن تتحقق الا بمزيد من الكفاءة والشفافية والتفاعل مع المواطن . واقصر السبيل الي تحقيق ذلك هي الحكومة التي تدخل مع كل مواطن الي بيته بل الي جيبه في هاتفه المحمول.


إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،