الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

الحكومة الفضلى (3)



تحدثنا في مقال سابق أن مجلس الوزراء الذي هو مصنع السياسات العامة هو مركز ماكينة الحكم .  فهو مبتدر التوجهات وواضع السياسات والتشريعات . ووزراؤه هم القادة السياسيون للخدمة العامة. بيد أن القسم الأكبر من آلة الحكم هو الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري. وقد ذكرنا ونحن في وارد الحديث عن الإصلاح إن الحديث عن إصلاح الخدمة العسكرية وان كان لا يستغني عنه فليس مقامه المناسب صحائف الصحف . والحكمة أن لكل مقام مقال وأن السر في محل السر والجهر في محل الجهر . وأما الجهر المباح فهو الحديث عن اصلاح الخدمة المدنية فهى الصلة الواصلة بين الحاكمين والمحكومين.
الخدمة المدنية..الرؤية والمهمة:-
لابد من رؤية للخدمة المدنية كيف تكون وما هي مهماتها ومقاصدها وغايتها. ولقد تأسست الخدمة المدنية علي عهد الاستعمار علي رؤية ثاقبة وواضحة لما يُراد لها ومن يُراد منها. فقد أراد لها المستعمرون أن تكون محدودة العدد محدودة المهام .  تنهض علي فكرة ضبط المواطن أكثر من فكرة تقديم الخدمات اليه. وهي فكرة مخالفة تماماً لفلسفة الخدمة المدنية في بريطانيا وغيرها من الدول المستعمرة والتي أنشأت الخدمة المدنية فيها لتنظيم حراك المواطنين بما يتيح  حركية أسرع في الانتاج والانجاز . فالاصل هنالك هو شعار (دعه يعمل دعه يمر) واما القاعدة هنا فلا حركة ولا حراك الا باذن ورخصة . فحتى ركوب الحمار يحتاج لرخصة من الجهات المالكة لزمام كل حركة في الحياة العامة. والخدمة المدنية في الغرب إنما جعلت وسيلة لتقديم الخدمات للمواطنين ولكي تكون وسيطاً فاعلاً بين الحكومة والمواطن في ارساء السياسات وإنفاذ التشريعات. والإصلاح الأكبر للخدمة المدنية اليوم سواء علي المستوي الولائي أو الاتحادي هو اعتناق رؤية جديدة للخدمة المدنية . تجعلها أشبة بكاسحة العوائق والصعوبات عن طريق المواطن .ليتمكن من المرور الآمن السريع لتجسيد أفكاره وتحقيق أهدافه. وهذا يعني أنها يجب أن لا تسمن علي حساب هزال دافع الضريبة.  وان لا تستقوي عليه بنفوذها وسلطانها بل أن تستخدم ما أؤتيت من سلطان وتمكين لتسهيل حركته وتسيير مروره وتأمين حقوقه وتحصيل مصالحه. وهذا يعني أول ما يعني أن لا تنشأ الوظائف في الخدمة المدنية لتشغيل العاطلين بل لخدمة المواطنين . فلا تنشأ وظيفة إلا إذا مست الحاجة إلي انشائها مع تحديد مهمتها بكل دقة .  وتأهيل شاغلها للاضطلاع بهذه المهمة. وهذا يعني عدة أشياء:-
أولها الاستيعاب الأمين النزيه للوظائف بلا محاباة ولا محسوبية. والمحسوبية داء عضال يقتات من ثقافة مجتمع تزدهر فيه المجاملة . وإيثار أولي القربى علي أولي الصحبة. والمحسوبية غالبها مُظاهرة للأقرباء وللمعارف . ولكن شقاً منها ليس بالقليل مظاهرة للأولياء السياسيين أو حتى غير السياسيين. ومحاربة المحسوبية تقتضي أن نسميها باسمها الصحيح خيانة لأمانة التولية . فمن ولي فرداً وهو يعلم من هو أفضل منه فقد خان الأمانة واستحق الملامة. ولن يكفي لمحاربة المحسوبية أن نذكر الناس بأنها ظلمٌ بينٌ  ولكن لابد لنا من سن التشريعات . واتخاذ التحوطات التي تسد منافذ المحسوبية فللعالم تجارب يمكننا الاستظهار بها في إطار منظومة شاملة لتعزيز النزاهة  العامة في الحياة العامة.
بناء القدرات لتقديم الخدمات:
       والأمر الثاني الذي يلي الاختيار الأوفق للفرد المناسب للمهمة هو الإعداد الأولي من خلال التعريف النظري بالوظيفة ثم التدريب العملى علي الوظيفة إثناء ممارسة الآخرين لها on the job training  ثم خطة مرسومة لبناء القدرات عبر مراحل الترقي المختلفة. وثالث الأمور هيكل مرن فاعل ومتفاعل قادر علي انجاز المهمات بشكل متسق ومتناسق ومنسجم. رابعاً تدريب أصحاب الوظائف علي التفكير الايجابي المبادر والسلوك المتواضع المتعاطف مع المواطنين. ولقد كان من دأب قدامي كبار الموظفين أن يمهروا رسائلهم لمن يراسلون علوا فوقهم أم أتضعوا، بخادمكم المخلص أو خادمكم المطيع . ولعل ذلك بعض ما يبذل لترويض النفس علي التواضع وإن علا بها الموضع أو الموقع . خامساً من المعلوم أن جزءاً من وظيفة الخدمة المدنية هي وظيفة تنظيمية regulative .  ولذلك يتوجب تدريب خُدام الشعب علي أن مهمتهم التنظيمية هي مثل مهمة رجل المرور لتسريع حركة المرور لا إعاقتها كما تجب المحاسبة الصارمة لكل سلوك يؤدي إلي تعقيد أو تأخير معاملات المواطن.
       ونحن في السودان اليوم نعيش واقع حكومة فيدرالية اتحادية . ما يعني أن غالب الخدمات التي تقدم مباشرة  للشعب صارت من مهام الخدمة المدنية في الولايات.  ولذلك فان الحديث عن اصلاح الخدمة المدنية يعني اكثر ما يعني اصلاحها في الولايات ولا يستثني هذا الحكومة الاتحادية . والخدمة الاتحادية والتي ضمرت بالحكم الاتحادي يتوجب عليها ان تضمر اكثر بالتفسح لحكومات الولايات وبتحويل كثير من المهمات للقطاع الخاص وللمجتمع المدني . وتحويل الحكومة الي مهمة التنظيم ليكون جوهر العمل الحكومي الاتحادي . فتصبح الحكومة منظماً للنشاط لا مُشغلاً له Regulator not operator . ولا شك أن الاتجاه العام يمضي الي ذلك المسار ولكنه لا يمضى بغير مقاومة تتأبي علي التكيف مع الرؤي الجديدة والمتغيرات المتبدلة.
       واصلاح الخدمة المدنية تعني المزيد من الحرية والكفاءة المؤسسية . بيد انه يعني في ذات الوقت المزيد من التنسيق والتفاعل و تكامل الأدوار في خدمة رؤية استراتيجية تبدو واضحة للجميع . ويبدو لكل مؤسسة دورها في انفاذها . ولعله من حسن الطالع ان فرصة سانحة عظيمة تتاح الآن لانجاز تفاعلية سريعة . وتحقيق الاتساق والتنسيق بقدر لم يكن متصوراً  من قبل. وذلك من خلال اغتنام فرصة تكنولوجيا المعلومات . والتي تطورت الآن الي مرحلة الادارة بالمعرفة . حيث يحصد الناس ثمرة ذلك سرعة في الانجاز وكفاءة في الاداء . واقتصاداً في المدخلات وتعظيماً للفوائد. ومما يفعم النفس بالسعادة ان الاستظهار بتطبيقات ما عاد يعرف اليوم بالحكومة الاليكترونية e-government  أصبح في متناول الجميع بغير مال كثير ولا جهد جهيد . ثم أن هذه التطبيقات يمكن ان تتنزل علي الأداء الحكومي تدريجياً في إطار خطة زمنية معلومة لأكمال تطبيقاتها بقدر الحاجة اليها. ولقد دار حديث كثير عن الحكومة الاليكترونية . وسنواصل في مقال قادم حديث مفصل عن الحكومة الاليكترونية وإمكانات انزال تطبيقاتها علي كثير من معاملات الحكومة ليكون التحرك نحو المقاصد أسرع وأنجاز المعاملات علي المواطنين أسهل أيسر.

نواصـــــــــــــــــــــــــــل،،،

الحكومة الفضلى ( 2-3)


تحدثنا في المقال السابق عن الحكومة وأقسامها فقلنا ان فرعها التنفيذي يتمثل بالرئاسة ومجلس الوزراء والخدمة العامة في حالة النظام الرئاسي ومن مجلس الوزراء والخدمة العامة في حالة النظام البرلماني. والنظام الرئاسي في جانبه المعني باعداد السياسات يعمل عن طريق الوزراء متمثلين في مجلس الوزراء سواءً برئاسة الرئيس او من يمثله وكذلك في الديوان الرئاسي الذي يشتمل علي عدد من المساعدين الذين يختصون بمتابعة ملفات تنفيذية يُؤثر الرئيس متابعتها  شخصياً ومن مستشارين يقدمون استشارات سياسية او متخصصة في امور يتابعها الرئيس مع وزرائه ومن مبعوثين يرسلهم الرئيس مباشرة الي نظرائه من الرؤساء في المهمات الخارجية. واما رئيس الحكومة البرلمانية فيتمتع بذات صلاحيات الرئيس التنفيذية وليس في النظام البرلماني سلطات غير السلطات السيادية لرأس الدولة. |
الحكومة والسياسات:-
ونعني بالحكومة في هذا المقام شقها السياسي المتمثل في مجلس الوزراء. لانه الشق المختص بأهم اعمال الحكومة . وهو اعداد السياسات العامة. ومجلس الوزراء هو المؤسسة ذات الأهمية الأكبر حثي في الأنظمة الرئاسية. لأن العمل الرئيس للفرع التنفيذي هو اعداد السياسات العامة ومراجعاتها والقيام علي تنفيذها التنفيذ الاتم. وأما السياسة العامة فهي استصلاح الشأن العام . ونحن نستخدم ههنا المصطلح الاسلامي ولكنه لا يخالف ما اصطلح عليه العلماء المعاصرون الغربيون. ديفيد استون يعرف السياسة العامة بانها "التقسيم السلطوي للقيم علي جميع المجتمع" . وهذا في اطار السياسة العامة لانه ما من تصرف حكومي الا ويهدف الي منح او منع . ولذلك فالسياسة العامة تشمل كل القرارات والتشريعات واللوائح التي تصدرها الحكومة للتعبير عن توجهاتها او انفاذ تلك التوجهات . ويدخل في ذلك ما أمتنعت الحكومة عن التدخل في شأنه.  لأن الامتناع عن الفعل  تصرف من تصرفات الحكومة ناجم عن إرادة مسبقة بعدم التدخل. وأعمال الحكومة لا تكون علي سبيل التمني والتشهي بل لابد لها من مقصد مشروع لتحقيق المصلحة العامة. يقول كارل فردريك (أنه من المهم للغاية بالنسبة لمصطلح سياسة ان يكون هناك مقصد، غرض او مراد) فالسياسة العامة هي وسيلة تتخذها الحكومة لتحقيق مقصد محدد من خلال منظومة في التشريعات والقرارات والتوجيهات واللوائح. وهذا التوضيح مهم للغاية لأنه في كثير من الأحيان لا تكون المقاصد من السياسات والأفعال والإجراءات الحكومية واضحة(فقر الشفافية) بل قد تكون مرتبكة بحيث يصعب تحديد التوجيه او الغرض الذي يتقصده الاجراء الحكومي. بيد أن الأمر المفترض علي مستوي المثال إلا يتخذ أي اجراء حكومي الا اذا كان متوجهاً لتحقيق مقصد يرجي من ورائه الصلاح العام Public benefit . وأهم ما ينبغى ان تتسم به السياسات العامة هي الاستدامة "الاستقرار النسبي" والاتساق والتكرر. والسياسات العامة شأنها شبيه بشأن ارساء عرف حكومي بازاء التعامل مع مسألة محددة لتحقيق مصلحة معلومة لمتخذ القرار. ولكن امتناع الحكومة عن اتخاذ الاجراءات عند تصور الحاجه لها يمكن ان يعتبر سياسة عامة تعبر عن ان الحكومة تري أن المصلحة هي عدم تدخل الحكومة بتوجيه الأمر او تركه للمجتمع المدني او القطاع الخاص او سلطات النقابة او الفئة او الأسرة.
وكما أسلفنا فأن العمل الرئيس لمجلس الوزراء هو صياغة السياسات يدخل ضمن ذلك اعداد التشريعات التي تعبر عن تلك السياسات العامة . فعلي سبيل المثال وقع خلاف حول سياسة رفع الدعم عن سلعة البنزين بين الفرع التنفيذي وبين الفرع التشريعي (البرلمان) في هذه الأيام . فسياسة الفرع التنفيذي هى رفع الدعم عن جميع السلع تدريبجياً مع تعويض الجهات المتأثرة من رفع الدعم العام بالدعم المباشر للمتأثرين . وأما الفرع التشريعي فقد رأي ان الوقت غير ملائم لرفع الدعم عن هذه السلعة . وعلي الرغم من موافقته في الجملة للسياسة العامة لرفع الدعم العام وتحويله لدعم خاص للقطاعات المثأثرة الا انه لم ير ان الحكومة قد فعلت شيئاً يذكر في الموازنة المرفوعة اليه لتحقيق الجزء الثاني المهم من هذه السياسة. ولذلك فقد رفض البرلمان رفع الدعم وطلب من الحكومة ان تصوغ سياسة لرفع الدعم تدريجياً وموازنته بالدعم المباشر، وما جري علي الرغم من أنه بدا للبعض وكأنه تناقض بين برلمان أغلبيته موازرة للحكومة وبين الفرع التنفيذي للحكومة إلا انه دليل عافية علي التفاعل الصحي بين مؤسسات الحكومة.
ولئن كان  لب الحديث عن الحكومة الفضلي فلابد لنا من الاشارة الي معيار الفضل او الجودة الذي يحدد كون الحكومة فضلي اوهى بخلاف ذلك. وأهم مؤشر لجودة سياسات الحكومة هي علاقة ذلك بالمواطن . وخير أنموذج لهذه العلاقة هو انموذج (البائع والزبون business & customer ) وشعار هذه العلاقة هو أن (الزبون دائماً او غالباً علي حق) ما يعني أن السياسات التسويقية والاجراءات يتوجب عليها مرة بعد أخري ان تتكيف مع اتجاهات العملاء. أما بالنسبة للحكومة فان سياساتها العامة في هذا الأنموذج انما تقاس بمعيار رضي المواطن عن نتائج تلك السياسات . ولربما لا يكون المواطن دائماً علي حق ولكنه غالباً علي حق . ولذلك فان معيار الرضي عن السياسات من أهم المؤشرات علي نجاعتها ونجاحها. ولكن ليست كل السياسات تتنزل مباشرة علي المواطن بل ربما تمر عبر علاقة مع الاسواق ورجال الاعمال والمستثمرين او حتي عبر العاملين بالخدمة العامة او المؤسسات الطوعية الاخري. ولذلك فان العلاقة الصحية بالقطاع الخاص وبالمجتمع المدني هي الأخري مؤشر مهم لنجاعة وصوابية السياسات. ومدي حصول السياسة العامة علي موافقة واسعة من الجمهور والقطاع الخاص والمجتمع المدني مؤشر علي الدرجات التي قد تتحصل عليها في سلم النجاح. وواحدة من أهم أسباب حصولها علي هذا الموافقة العامة هي انفتاحها بالوضوح والعلانية والشفافية . والافصاح عن مقاصدها وأسلوبها في تحقيق مقاصدها وضبط ذلك بقواعد معلومة للجميع . مع قدرتها علي التجاوب والتكيف السريع مع الحاجات العامة  والرأى العام. وأقوي ضمانة لكل ذلك انفتاحها علي شراكة مستمرة مع المواطن عبر القطاع الخاص والمجتمع المدني . فروح الشراكة في التفكير والعمل تضع الجميع علي مساق واحد . وتجعل النجاح حصيلة لقطاع واسع في الحكومة والمجتمع علي حد سواء.
إصلاح الحكومة:-
مهما كانت حالة الرضي الذي تتمتع به الحكومة عند جمهورها فهي حاجة مستمرة للاصلاح. فالاصلاح وحده هو ضمانة للقابلية علي الاستمرار Sustainability  ومفهوم القابلية للاستمرار قد أصبح فكرة مسلم بها في ثقافة التنمية. ذلك أن التنمية الأقتصادية والتنمية السياسية والأجتماعية لابد لها من الاعتماد علي موارد لا تنضب من القدرات البشرية المتطورة والمقدرات المادية التي يسهُل الحصول عليها باقل قدر من الجهد او المال. ولابد لتحقق القابلية للاستمرار من انفتاح مستمر علي التكيف والتلاؤم ومراجعة الافكار والوسائل. إن الدعوة المستمرة لاصلاح الحكومة لا ينبغي أن تفهم وكأنها اشارة للفساد في الحكومة . ولكنها دعوة تلحظ قابلية الفساد في الحكومة. وكل شئ فيه القابلية للفساد مع استدامة حالة الرضي عن النفس . والركون الي الاطمئنان بغير نظر ولا عمل او الركود علي الحال الراهن تحت شعار(ليس في الامكان ابدع مما كان). واصلاح الحكومة (مجلس الوزراء) نعني به ايجاد آلية دائمة لاستشعار الراي العام . ولاعداد الدراسات والبدائل ولدراسة مردود السياسات علي أرض الواقع . ولقياس مدي اتساق تصرفات الوزرات المختلفة في اطار سياسة موحدة بازاء المسألة الواحدة . ونعني به من الجانب الآخر اختيار الوزراء علي أساس من الكفاءة وتناسب القدرات مع المهمات. وهذا لا  يعني بالضرورة  التخصص في الفرع الوزاري كأن يكون وزير الزراعة زراعياً او وزير الأشغال العامة مهندساً. فأهم ما يقوم به الوزراء ليس ما يضطلعون به في وزارتهم بل أهم أعمالهم هو ما يقومون به مجتمعين في مجلس الوزراء. بيد أن الوزير لابد له أن يكون علي مستوي من الدراية بحيث يستطيع ان يفهم حديث المختصين في وزارته . وان يكون ناقلاً وموصلاُ جيداً للافكار بين رئاسة الحكومة ورئاسة الوزارة, وأهم مؤهلات الوزير هو قدرته علي فهم السياسة العامة والتعبير عنها ليس في وزارته فحسب بل في جملة أداء الحكومة. ولذلك فلابد من عمل جماعي وفردي لرفع القدرات لدي الوزراء او وزراء الظل "الوزراء المحتملين من المعارضه" في مجال فهم السياسة العامة وتطويرها .برفع القدره علي الترجيح بين البدائل والملكة في تقدير مردود السياسة نفعاً ام ضراً ام ضعفاً في التاثير والفعل. ولهذا السبب فان مجلس الوزراء لابد له ان يكون ملائماً من حيث العدد ومن حيث التنظيم لهذه المهمة. فان كان العدد فوق القدر الذي يسمح بالتداول المثمرأصبح ذلك مضراً بالنظر العميق والسديد في تقدير السياسات .وكذلك فان العدد القليل دون المطلوب له أثر مثل ذلك . وقد حاولت بعض التجارب استدراك "كثرة العدد" من خلال استخدام فكرة القطاعات المتخصصة وفكرة الحكومة المصغرة . ولم يضطر احد الي معالجة قلة العدد ببديل آخرسوى بزيادة العدد . ولا شك ان أنظار كثير من أهل التطلع للوزارة يسرها ان لا تكون مثل تلك المشكلة ماثلة للأنظار.

نواصـــــــــــــــــــــــــــل،،،


السبت، 17 ديسمبر 2011

الحكومة الفضلى ( 1-3)



يدور حوار الساعة عن الحكومة الجديدة ولا جديد فيما يقال، المعارضة تقول أنها ولدت ميتة (وما الذي يزعج المعارضة من الأموات) آخرون يقولون تكررت الوجوه ولا جديد، والمؤتمر الوطني يقول نريد التجديد لكننا نحتاج للخبرة والحنكة، وأما موضع تركيز هذه المقالات فليست الوجوه ولا توسيع المشاركة أو تضييقها وإنما مناسبة الأطر والعلاقات التنظيمية . وتناسب المكلفين بالمهام مع ما يكلفون به . وبقدر ما تكتسب الحكومة من نقاط باعتبار هذه المقاييس تقترب من مقام الحكومة الفضلى التي يرمقها الجميع بمزيد من الإعزاز والتقدير.
الحكومة  ما هيّ ؟
تعودت الأذهان الناعسة على تقبل المصطلحات والمفردات دون فحص دقيق وذلكم حالٌ يشبه حال قصير الباصرة الذى تتداخل المشاهد أمام عينيه . فهنا تتداخل المعاني في فهمه وإدراكه، يجيء هذا القول مقدمة لتصحيح المعنى المراد في هذا المقام من مفردة الحكومة. فمرادنا أوسع من مجلس الوزراء (The Cabinet) وهو يشمل الإطار التنفيذي للحكم ما يعني رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والخدمة العامة بجناحيها المدني والعسكري.  وإذا زعم محسوب على الموالاة أن كل شيء "تمام" وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان علمت الكافة أنه يقول ما لا يقصد أو لا يقصد ما يقول. ولو زعم محسوب على المعارضة المناوئة أن الحكومة على شفا جرف هار، ونظامها منهار علم الناس أنه لا يصف ما يتملى بل يصف ما يتمنى.  وبين الراضي والساخط موضع للناقد. والنقد لا يعني بالضرورة الذم والتبخيس . كما لا يعني المدح والتغريظ، وإنما هو مثل تمييز الأحسن والحسن والذي ليس له إلى الحسن سبيل. ولكي نصف الحكومة الفضلى يجدر بنا أن نعرفها أولاً . اما الحكومة فهى فعولة من الحكم ، أي أنها اسم مفعول للفعل حكم . وهو من الأفعال الشريفة لأن أرومته في الكلام شريفة . فمفردة حكم وأحكم وحكّم أصولها في الاحكام الذي هو وضع الشيء موضعه . ومن الحكمة التي هي كذلك . ولذلك فكأن من اختار هذا المصطلح يريد أن يقول أن الحكومة مفعول للاحكام أو الحكمة . وكان الأولى أن تكون اسم فاعل وليس اسـم مفعول ، ولكن المفردة شأن كثير من المفردات المعربة حديثاً تفتقر إلى فصاحة العرب الإقحاح وأكثر من الحكومة مناسبة مفردة المحكمة (مفعلة) التي هي اسم أداة . فالمحكمة وسيلة لإعطاء كل ذي حق حقه ورد الأمور إلى نصابها. والمفردة الانجليزية أكثر فصاحة government لأنها تعني وسيلة الحكم. والمعنى المراد من الحكومة الهيئة التي تتسم بالحكمة والتي تسوس الأمور وتدير الشؤون على الوجه الأفضل.  وهي تتكون من فرعين فرع متخصص بالسياسة وفرع متخصص بالإدارة.
الفرع المتخصص بالسياسةThe cabinet أي مجلس الوزراء سواء كان في حكومة برلمانية أو رئاسية . والفرع المتخصص بالإدارة والتنفيذ هو الخدمة العامة. ولن ينصلح حال آلة الحكم ما لم تخضع باستمرار للصيانة المستمرة من الأعطال المتكررة .  وأن تخضع أحياناً لإصلاح شامل (عمرة كاملة) . وإذا تركنا الحديث عن أحد جناحي الخدمة العامة الذي هو الخدمة العسكرية لحساسية الحديث عن إصلاح الخدمة العسكرية في الصحف السيارة، فإنه لابد من الحديث عن الجناح الآخر للخدمة العامة الذي هو الخدمة المدنية. والمقصود بالخدمة المدنية هو الكادر المهني الدائم . وهو الجسم الأكبر من الحكومة يتألف من عشرات أو ربما مئات الآلاف من أهل المهن المسخرون لتقديم الخدمة العامة. والأسم المشهور للخدمة المدنية هو البيروقراطية Bureaucracy أي سلطان المكاتب . وهو يحمل إشارة ناقدة مضادة لمعنى الخدمة كأنها تقول أتينا بهم خداماً فصاروا أسياداً.  وأما الفرع الآخر من الحكومة فهو مجلس الوزراء المختص بتوجيه السياسات. وكلمة وزير  تعني مساعد فبالضرورة أنه محسوب على قائد . وأن القائد هو الأصل والآخرون (وزراء) مساعدون، فالوزير هو من يُعين ومن يؤازر في إنفاذ مهمة .  فهو بطبيعة التكليف مفوض لا مخول. وهذا إن صح في النظام البرلماني الذي يقوم على اختيار البرلمان لرئيس الحكومة ثم قيام رئيس الحكومة باختيار وزرائه (مساعديه) فإنه أكثر صحة في شأن الرئيس الذي ينتخبه الشعب ثم هو من بعد يختار مساعديه . وهو حر في إطلاق الألقاب التي يشاء عليهم، ما لم يقيده الدستور.  فهو ينشئ مجلساً للمساعدين "الوزراء" أو السكرتيرين(الأمناء) . وله أن يختار ثلة لأغراض الاستشارة"مستشارون" وثلة أخرى لأعمال تنفيذية لا تدخل ضمن أعباء الوزارات "مساعدون" . كما له أن يختار من يساعده في اتصالاته الخارجية "مبعوثون" وأما سفراؤه الذين تنظم نشاطهم وزارة الخارجية فيتبعون لأمرته مباشرة . والوزير وكيل لا يحجب الرئيس عن سفرائه. وللرئيس أن يتخذ كبيراً للوزراء أو وزيراً أولاً ، وله أن يترأس حكومته مباشرة . فيكون رئيسها على الدوام ما لم تضطره الظروف إلى الاستخلاف.
هذا هو وصف الحكومة وتوصيف مهامها ، ولقد أدركت الشعوب منذ زمان قديم أنه لا يمكن أن يؤمن استبداد فرد أو جماعة بالحكم فيحكم بغير رشد بانطباعات وبالتشهي وبالتشفي، ولذلك اتُخذت البرلمانات ومجالس الشورى ومجالس الحكم وسيلة لضبط تفلتات الحكومة . وإحكام الرقابة على أدائها وإعانتها بالتشريعات على تثبيت السياسات وإلزام الجمهور بها. وبهذا المعنى فإن وجود البرلمان وفاعلية أدائه أمر جوهري لضمان جودة الأداء الحكومي،  ما يعني أنه لا يمكننا الحديث عن الحكومة الفضلى ما لم يشمل الحديث دور البرلمان وفاعلية أدائه.
الناس والحكومة:
شأن الناس مع حكوماتهم شأن المثل العامي ( لا بريدك لا بحمل بلاك) فالحكومات جميعاً عبء على شعوبها . ولكنه عبء تقبل الشعوب به لأن غياب الحكومة أمر يعُسر على الشعوب احتماله. ولذلك أن تطمع حكومة من الحكومات أن تنال تمام الرضا أو أن تحظى بكثير الرضا مع طول البقاء فإنها لا تعدو تحدث نفسها حديث الأماني الكذاب. فمثل الحكومات مثل زوجة حسناء لا تكتفي بحسنها بل تبذل غاية الوسع في التجمل والتزين ، ولكن مع مضي الوقت سوف يقال لها (لا يصلح العطار ما أفسد الدهر) . ولذلك فإن التجديد المستمر في الهياكل والأطر والاستراتيجيات والسياسات والوجوه والقيادات أمر محتوم لأية حكومة تريد أن تمتد أيامها في الحكم وتستطيل . ذلك أن العامة من الناس الذين لا يريدون أية حكومة إنما يجهدون أنفسهم لاحتمال الحكومات على علاتها . وهم أدنى إلى مزاج ناقم ساخط منه إلى مزاج ناقد راض.  ولذلك ما لم تكن الحكومة في حالة سباق مستمر لتسجيل أرقام قياسية فترة بعد أخرى، فإن الناس سوف يقلبون أبصارهم للبحث عن بديل غير عال الكلفة للحكومة القائمة. لذلك كان التراضي على أسلوب للانتقال السلمي السلس للسلطة أمر جوهري في استدامة الاستقرار .  فمن وضعه الدولاب الدائر في أعلى السلطة لابد له من تهيئة النفس لوقت تدور فيه الدائرة ،لأنها ما تنفك تدور. ولكن سرعة دوران الدولاب يمكن للحكومة الراشدة أن تتحكم فيها فيكون له بدل الدورة دورتان وبدل الدورتان أربع . وكم من حكومة جاءت إلى الحكم مرة من بعد مرة ، كما جرى الأمر في الهند وفي بريطانيا وإسرائيل وغيرها، لأن الناس لا يجدون أفضل منها على علاتها . ولأنها اكتسبت من الخبرة والحنكة ما يجعل الناس يؤجلون التخلص منها من دورة انتخابية إلى دورة أخرى.
نواصـــــــــــــــــــــــــــل،،،

حصاد المؤتمر 2



أنهي المؤتمر الوطني أعماله باعتماد وثيقتين مهمتين . الأولي هي تعديلات النظام الأساس والتي هدفت إلي موائمة القانون الأساس للمؤتمر مع متغيرات الراهن السياسي ومستجداته. كما عملت علي دعم وجود وفاعلية القطاعات المتخصصة في الأجهزة القيادية للمؤتمر الوطني . وقد أوضحنا أهمية ذلك التعديل والذي يتيح للحزب أن يستفيد الفائدة القصوى من وجود آلاف الكوادر ذات التخصص الرفيع والخبرة الطويلة لإعداد السياسات أو مراجعة آثارها ومردودها العملي والسياسي. كذلك أشرنا في المقال السابق إلي إقرار المؤتمر الوطني لمنهجه الفكري الذي يبين رؤيته الوسطية لقضية تحكيم الشريعة الإسلامية وسعيه لتمليك هذه الرؤية لجمهور الشعب السوداني تمكيناً للمشروع الإسلامي وتعميماً لإثاره في الحياة الخاصة والعامة.
التحدي الذي نواجهه
هذا والي جانب شرح وتوضيح الرؤية الفكرية للمؤتمر الوطني أبانت ورقة (أفق جديد) التحدي الذي ينتصب بوجه السودان . والذي يتمظهر من بعد تبديه العام في تحديات تفصيليةفرعية . وذلك التحدى الكلى هو تحدي اغتنام سانحة التفويض الشعبي الكبير الممنوح للمؤتمر الوطني للانتقال من مرحلة تأسيس الدولة إلي رفع قواعدها علي هدى المشروع الإسلامي. وتمليك المشروع الحضاري للشعب من خلال إبراز منافعه للناس . ودوره في تحقيق الحياة الكريمة الطيبة لهم . وفي إقامة العدل الشامل وبسط الحرية الواسعة وترسيخ المساواة الشاملة . وتوسيع المشاركة الفاعلة وتعزيز النزاهة الكاملة ومحاربة كل وجوه الفساد. و يتفرع عن هذا التحدي الأكبر تحديات متفرعة عنه أهمها مجابهة العصبية والغلو بتقوية الروابط الدينية والوطنية . ومدافعة النعرات العرقية والقبلية والجهوية بل نبذ التعصب الحزبي والفئوي بتعزيز روح الأخاء الوطني وتحقيق وسطية الإسلام التي هي أصل العدل والشهادة .
ولن يكون ذلك متيسراً إلا برؤية شاملة للإصلاح . تهدف إلي تنقية الصف القيادي مما تسعي  الرؤية للتخلص منه في سائر المجتمع. وذلك بإنفاذ الإصلاح السياسي الشامل . وتعزيز البنية القيادية سواء في الحزب أو الدولة. وإجراء مراجعات معمقة للأداء السياسي والتنفيذي . وللسياسات العامة وتقوية هياكل الحزب والدولة التنفيذية والتشريعية والرقابية . ليقود المؤتمر الوطني تيار التغيير عبر الحوار والشراكة الوطنية مقصدا لاصلاح الحياة السياسية والحزبية في السودان. وتقوية هياكل الدولة تقتضي إعلاء مبدأ المؤسسية وبسط سيادة القانون . وتعزيز القدرات المؤسسية والفردية والارتقاء بالأداء المهني علي كل صعيد . وبخاصة في مجالات التشريع وإرساء العدالة. وتحقيق الشفافية والعلانية في الحزب والدولة . وإفساح السبيل لأهل العطاء وتوليد القيادات الجديدة وتصعيدها إلي مراكز اتخاذ القرار. وإتباع منهج المراجعة المستمرة والصارمة للأداء والقياس الدائم لنجاعة السياسات وحساب مردودها . وتطويرها لتفعيلها لاجتراح مسارات أسرع للنهضة والتنمية . ولسوف يؤدي الإصلاح السياسي الشامل إلي تقليل التوترات وعزل التمردات .  مما يعين علي المواجهة الحازمة والحاسمة واحتواء الآثار السالية لها . واستكمال العملية السلمية ببناء قاعدة متينة للسلم الأهلي . وإعداد القوة الرادعة لمن يستهين بهيبة السلطة أو الدولة. وتقوية النسيج الداخلي سوف تساهم في إعداد المجتمع والدولة لمواجهة تحدي العولمة والاختراق الخارجي والتدخل الأجنبي في شؤون الوطن . وتهيئته للتعامل الراشد مع تحدي ثورة الإعلام الجديد والفضائيات ولاتصالات .  التى تسعي لعولمة الأوطان علي مثال غربي مادي غريب علي معتقداتنا وهويتنا وتراثنا الوطني، تعاملاً يسعي لتطوير القدرة في مجالاته . وتطويعه لإرادتنا ومقاصدنا وإنشاء المؤسسات المتخصصة التي تُعظم الفائدة منه كما تناهض آثاره السلبية علي سلوك المجتمع وأداء الدولة . واغتنام فرصة النهضة المعلوماتية لتعظيم الوعي الشعبي . وتأسيس مجتمع المعرفة وتقوية مرجعياته التربوية وأصولها بما يضمن فاعلية الفرد في المجتمع . وتعزيز استعداده التام لمواجهة أعباء الحياة المختلفة. ولن يتحقق ذلك إلا بتحقيق جودة التعليم وتوظيفه . ومراجعة مناهجه ومحتواه وطرائقه . ووصله بالوسائط التقنية الحديثة مع التعزيز للقيم الدينية والفكرية والثقافية في مناهجه . وتطوير البحث العلمي مفتاحاً للنهضة التنموية والفكرية ووصله بقضايا التأصيل والتكامل المعرفي بين كافة المؤسسات. أصالة نجابه بها الغزو الثقافي الفكري وآثاره علي مكونات مجتمعاتنا دون تحسس من التلاقح المثمر مع كل ما هو خير ونافع من الثقافة الإنسانية أو النظم والتشريعات الدولية.  وإما علي الصعيد الاقتصادي فالضرورة تقتضي مواجهة تحدي نقص الموارد البشرية بسبب الانفصال .  بتعويض الكم بالنوع من خلال بناء القدرات وتطوير فاعلية العاملين وتعظيم الإنتاجية والارتقاء بجودة التدريب والتأهيل . وكذلك مواجهة تحدي نقص الموارد المالية بالترشيد في الإنفاق . وتحقيق الاكتفاء الذاتي مما يمكن أن يكتفي منه ذاتياً . ومعالجة عجز الميزان الخارجي وآثار المقاطعة الاقتصادية والديون الباهظة. وليسبق ذلك اهتمام غير مسبوق لتحقيق ميزان العدالة الاجتماعية بالانحياز للفقراء والمحرومين . والمفاضلة بين يملك ومن لا يملك لصالح الأخير . وذلك بتعظيم جهود مكافحة الفقر المدقع (40% قد تقل بعد الانفصال) ومواجهة البطالة التي أدت إلي اتساع رقعة الفقر الحضري . ومواجهة أمراض المناطق الحارة المتوطنة. وإعانة الفقراء على إعالة أنفسهم من خلال مشروعات التمويل الصغير والأصغر . واستخدام التقانات الحديثة لتوسيع مداه وتغطيتهوبخاصة تقانة الاتصالات. فالعدل الحق ليس فض النزاعات بين الفرقاء ولكن العدل إعطاء كل ذي حقٍ حقه.
الموجهات والمؤشرات
       ولم تكتف الورقة بتعداد التحديات بل ذهبت إلي طرح موجهات ومؤشرات . لتكون أجندة للحوار الداخلي في الحزب والحوار الأوسع علي نطاق الوطن . وأهمها المرتكزات الأساس للمؤتمر الوطني التي يسعي للتداول حولها مثل مفهوم تحكيم الشريعة وتعزيز الهوية الإسلامية. ومفهوم المواطنة وحقوق الإنسان والحقوق المدنية . وقضايا بسط الحريات وصيانة الحرمات . وتعزيز التعددية وتحقيق استقلال القضاء . وتحقيق مدنية الحكم في السودان في إطار المرجعية الإسلامية . وتأصيل الحياة الخاصة والعامة . وإدارة التنوع والتعدد الثقافي والفكري . وتطوير الأطر الديمقراطية والشورية . وتحقيق العدالة الاجتماعية . وتأكيد تعزيز دور منظمات المجتمع المدني . وتطوير الحياة السياسية والحزبية . لتكون حركة وطنية ذات أهداف نهضوية . وبرامج وطنية واضحة وصدق في بناء التحول الديمقراطي الرشيد. يشمل ذلك إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما يعزز الفيدرالية . وتقصير الظل الإداري والفاعلية المؤسسية ، مع إحكام التنسيق بين المستويات التنفيذية والتشريعية ومراجعة التشريعات لضمان التطور المستمر.



إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،

الإسلاميون والدولة المدنية (3-3)


ذكرنا في مقالات سابقة كيف تدار الحملة السياسية والإعلامية لإجبار التيارات الإسلامية التي تقبل على الحكم في أكثر من بلد عربي للتخلي عن مرجعيتها الإسلامية تارة باسم الديمقراطية ومخالفة المبادئ الإسلامية للمبادئ الديمقراطية، وتارة أخرى باسم مخالفة المبادئ الإسلامية للمبادئ الذي يتوجب أن تنشأ على أساسها الدولة المدنية التي طالبت بها الجماهير. وقد فصلنا في مقالٍ سابق ما المقصود بالدولة المدنية، وأن محاولة العلمانية للمطابقة بينها وبين الدولة العلمانية محاولة لا تستند على منطق سليم ولا وقائع تاريخية صحيحة.
الدولة المدنية والمرجعيات المسيحية:
ودعوى أخرى يريد العلمانيون إشاعتها وترسيخها في الثقافة السياسية . وهي أن المرجعيات الدينية تتناقض مع مدنية الدولة . وهذا زعم مردود، فطالما جُعل معيار المساكنة والمواطنة هي الأساس لتحديد الحقوق والواجبات فإن الإدعاء بأن الاهتداء بمرجعية فكرية أو ثقافية يتناقض مع مدنية الدولة يظل مجرد دعوى فاقدة للدليل والبرهان . فلطالما  كانت الدول تؤسس على أفكار وفلسفات والحكومات تنشئ التشريعات والسياسات ولذلك فإن الزعم بأن تلكم الأفكار والسياسات والتشريعات ليس لها أية صلة بأي فكر إيديولوجي أو مرجعيات ثقافية أو دينية زعم لا يتأسس على الحقائق ولا الوقائع. فليس سراً أن الأيديولوجية المسيحية الديمقراطية تضطلع بدور أساس في تشكيل معالم السياسة الممارسة في غالبية دول أوروبا وعدد آخر ليس بالقليل من دول أمريكا اللاتينية. والأيديولوجية المسيحية الديمقراطية Christian Democracy يعرفها أهيوارد A.heyward بالقول أنها هي الأيديولوجية التي تسعى لتطبيق مبادئ المسيحية في السياسات العامة. وهي حركة قد نشأت في القرن التاسع عشر وانتشرت في القرن العشرين، ومرجعها إلى المبادئ الاجتماعية الكاثوليكية . ولكنها انتقلت من الكاثوليكية للمذاهب المسيحية الأخرى. والدعوة المسيحية للديمقراطية تتبني منهجاً في الاقتصاد يدعو إلى (اقتصاد السوق الاجتماعي) أي الاقتصاد الحر الذي يراعى الاعتبارات الاجتماعية . وهي دعوة تتطابق مع دعوة الحركات الإسلامية التي تقبل اقتصاد السوق ولكنها ترفض الرأسمالية الوحشية التي تجعل المال دولة بين الأغنياء. ولا تراعي آثار الحرية الاقتصادية على الطبقات المستضعفة . ولا تعمل على تعزيز أوضاع الفقراء Poor empowerment . وكما تجعل الحركات الإسلامية معولاً كبيراً على الأسرة فإن الحركة الديمقراطية المسيحية تجعل الأسرة محوراً للمجتمع . وتركز الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والتفعيل الاجتماعي للأسرة بحسبانها خلية المجتمع الأولى. وأشهر أحزاب الدعوة المسيحية الديمقراطية هي الاتحاد المسيحي الديمقراطي CDU الذي يحكم المانيا بقيادة المستشارة أنجيلا ميركيل . وهنالك الحزب المسيحي الشعبي الحاكم في سويسرا والحزب الديمقراطى المسيحى فى هولند والحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا والحزب المسيحي الديمقراطي في شيلي . والحزب الديمقراطي المسيحي في المكسيك واستراليا . وكل هذه الأحزاب حاكمة ولا تكاد توجد دولة أوروبية أو دولة في أمريكا اللاتينية تخلو من حزب يمثل الحركة المسيحية الديمقراطية (النرويج، النمسا، بلجيكا، فلندا، أيرلندا، لوكسمبيرج، مالطا، البرتغال، بولندا، أوكرانيا، السويد) وأشهر الأسماء فيها هي من أشهر الأسماء في السياسة الأوربية مثل كونراد إيدناور وهيلموت كول في ألمانيا وألدو مورو وجوليو أندرويوتي في إيطاليا.
مبادئ الحركة الديمقراطية المسيحية:
ولا يماري أحد أن مبادئ الحركة المسيحية الديمقراطية هي جوهر مبادئ الديانة المسيحية وقد تلتقي مع مبادئ الإسلام في مفاهيم وأصول كثيرة ولكنها ليست بالمتطابقة معها . وأهم هذه المبادئ هي العداء للمبادئ اللادينية وعلى رأسها الشيوعية مع التركيز على التطوير الاجتماعي بالتركيز على تعزيز دور الأسرة بتشجيع الزواج ومحاربة الإجهاض . والدعوة إلى الإصلاح ومناهضة الراديكالية مع الإيمان بحقوق الإنسان .والعمل على تحقيق حرية السوق مع تعزيز التضامن الاجتماعي ودعم دولة الرفاهة. والدعوة الديمقراطية المسيحية دعوة تجديديه في جوهرها أدمجت مبادئ الليبرالية والفكر الاجتماعي في إطار الرؤية المسيحية للإنسان والحياة. بيد أنها على خلاف الليبرالية ندعو لتدخل واسع للدولة لمصلحة التوازن الاجتماعي . كما نرفض النزعة الفردية المفرطة دون أن تعمل على كبح المبادرة الفردية،  وهي ترفض الشذوذ الجنسي والزواج المثلي والإجهاض، والعلاقة  الجنسية خارج الأسرة، وتفعل ذلك امتثالاً للرؤى والمثل المسيحية بغير مواربة ولا اعتذار.
ولا شك أن المتأمل في هذه المبادئ من الإسلاميين لا يكاد يجد حرجاً في إدراجها ضمن رؤية اجتماعية اقتصادية تستند على المرجعية الإسلامية وتمتثل للمبادئ الإسلامية. ولا غرو فأن الأديان السماوية تلتقي في إطار الرؤى الاجتماعية الكلية . ولذلك فإن تحالفاً بين الأديان الابراهيمية لتحقيق الإصلاح الاجتماعي في وجه الدعوات الليبرالية الانحلالية أو الدعوة المادية المنكرة للأديان يدخل في إطار التحالف الأخلاقي الذي يمكن أن ينشأ بين أهل الأديان السماوية . وقد تظهر في تفاهمات سياسية بين القوى الداعية لاستعادة الرشد الديني للإنسانية المتفلتة من القيم الأخلاقية الجانحة نحو الإباحية المطلقة فان حدث ذلك فانها ستكون خطوة واسعة نحو الترقى الانسانى الذى تنشده الاديان.
الحركة المسيحية الاجتماعية (الاشتراكية):
وكما نشأت الحركة المسيحية الديمقراطية نشأت الحركة المسيحية الاجتماعية(الاشتراكية) Christian Socialism  وهي تنتمي إلى اليسار المسيحي. وهي حركة نشأت في القرن التاسع عشر، وأشهر مؤسسيها هي شارلس كنجزلي Charles Kingsley  ، وأشهر الأحزاب الاشتراكية "الاجتماعية" المسيحية هي الحزب الاجتماعي المسيحي الايطالي والحزب الاجتماعي المسيحي النمسوي والألماني والبلجيكي والسويسري والهولندي، وفي أمريكا اللاتينية الأحزاب المسيحية الاجتماعية في البرازيل وفنزويلا وشيلي، وحتى حزب العمال البريطاني فقد نشأ في إطار الفلسفة الاشتراكية المسيحية التي عرفت بالحركة الفابية.
ومن أشهر رموز هذه الحركة من الرؤساء الحاكمين اليوم هوجو شافيز في فنزويلا الذى يعمل على احياء مبادئ ثورة سيمن بوليفار التى بشرت بالمبادئ المسيحية الاجتماعية . وبخلاف المسيحية الديمقراطية فالحركة المسيحية الاجتماعية قد تتبنى المنهج الثوري للتغيير . وهي من رفع شعار (الإنجيل الاشتراكي) Social Gospel ورفعت زعاماتها في أمريكا اللاتينية شعار (لاهوت التحرير) الذي الهم الزعيم الثوري شي جيفارا والرئيس اليندى والشاعر الشهير بابلو نيرودا. والدعوة المسيحية الاشتراكية ترفض الماركسية بوصفها حركة لا دينية مادية . بيد انها تقبل أطروحات الماركسية الاجتماعية فيما ترفض أساسها الفكري الفلسفي لأنه يناقض المثل المسيحية التي تتبناها الحركة. ولا شك أن في مبادئ الحركة المسيحية الاجتماعية مبادئ كثيرة تتماهى مع مبادئ إسلامية تتمثل في الانحياز للفقراء ونصرة المستضعفين ومناهضة الرأسمالية المتوحشة والكفاح ضد الإمبريالية.
المرجعية الإسلامية وبناء الدولة المعاصرة:
أنموذج الحركة المسيحية الديمقراطية والحركة المسيحية الاجتماعية اللتين صنعتا التاريخ السياسي المعاصر أنموذج يمكن أن يفيد الحركات الإسلامية في سعيها لبناء دول معاصرة . فالتعويل على الرؤى الفكرية المجردة أو النماذج التاريخية سيكون أبعد ما يكون عن معنى السياسة. فالسياسة في جوهرها ارتباط وشيج مع الوقائع على الأرض . واتصال عميق باحتياجات الناس ومقاصد التنمية.. ولذلك فإن المنهج (العملي السياسي) Real politic (الريل بولتيك) هو المنهج الوحيد للتعاطي مع تحديات الراهن السياسي في العالم العربي الإسلامي. وفي تركيا كان منهج (الريل بولتيك) هو المنهج الذي اتبعه حزب العدالة والتنمية وقاده للنجاح .غير أن الحزب بحسب الواقع السياسي الذي يكبله عجز عن طرح المرجعية الإسلامية أطاراً للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي . فعلي الرغم من استقائه في أحيان كثرة من المرجعية الإسلامية إلا أنه مكبل بواقع العلمانية الوحشية السائد في تركيا . ولذلك فهو يعجز حتى عن تبني موقف مثل موقف الحزبين المسيحي الديمقراطي أو المسيحي الاجتماعي في دولة تمثل الأنموذج له في التنمية الاقتصادية مثل ألمانيا. فهو يتبني أنموذج التنمية الاقتصادي الألماني ولكن ظروفه تمنعه من تبني أنموذج التنمية السياسية لدى الحزبين القائدين في ألمانيا. بيد أن الواقع الذي يكبل حزب العدالة والتنمية في تركيا لا يقيد حزب النهضة في تونس ولا حزب الحرية والعدالة في مصر ولا أي حزب ذا توجه إسلامي قد ينشأ في ليبيا.  ولذلك فالمطلوب من الإسلاميين الاعتداد بمرجعيتهم الإسلامية بغير تشدد ولا تعصب . وعليهم تطوير رؤية معاصرة للسياسة يستندون إليها لإقامة الدولة المدنية التي ترعى حقوق جميع المتساكنيين في أرجائها بغير تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو النوع أو الملة أو المذهب الديني . فذلك الأنموذج عريق في الفكرة الإسلامية وهي الأنموذج الذي أسس عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أول دولة في الإسلام دولة المدينة المنورة.
إنتهــــــــــــــــــــــــــــــي،،،

الإسلاميون والدولة المدنية (2)



        أصبح شعار الدولة المدنية شعاراً يتدثر به العلمانيون في المنطقة العربية بعد أن أدركوا تهافت الخطاب العلماني وافلاسه وأنصراف الشعوب عنه ضربة لازب. ومثلما أُستخدم من قبل أسم العلمانية المشتق من العلم دثاراً للدولة اللادينية اللائكية يُراد استخدام التمدن دثاراً للعلمانية التي عرفت الجماهير سواءتها  وأنصرفت عن جهاتها. ولذلك فان الحملة تدار الآن لإقناع الشعوب أن إسلام الحركات الإسلامية هو ليس بالإسلام المعتدل الوسطى، بل هو السياسة المندثرة بالإسلام . ويراد إقناع الإسلاميين بعد أن ترجح وصولهم للحكم على أكتاف الجماهير أن يحكموا بالسياسة العلمانية التي تفصل الحكم عن القيم والمقاصد والقواعد الإسلامية، ويسمون ما يدعون إليه بالدولة المدنية . ويجعلون الدولة المدنية في محل التعارض لا التوافق مع الفكرة الإسلامية .  فالدولة لدى هؤلاء لا تكون دولة إلا إذا كانت على صورة الدولة الغربية العلمانية . والتحديث لا يكون حداثة ولا تجديداً إلا إذا سلك سبيل الغربيين حذو القذة بالقذة . ولقد أشرنا في مقالة سابقة إلى صرعة مدح التجربة التركية ووجوب أن تتخذها الحركات الإسلامية المقبلة على الحكم أنموذجاً ومثالاً ليس حباً فى حزب العدالة والتنمية ولكن للترويج لعلمانية يمكن تسويغها للذائقة الشعبية.
 آفة المصطلحات معربوها
المفردات ليست حروفاً متشابكة لا أصل لها ولا أشتقاق بل المفردات هي تناسل الكلمات عن المعاني . ولكن من يريد تزوير الأفكار يسعى إلى فصل المفردات عن جذورها وأصولها. والآفة الكبرى في تحديد معاني المفردات هي التعريب عن اللغات الأجنبية. فالمعربون الناقلون للمصطلحات من اللغات الأجنبية الغربية على وجه الخصوص لم يكونوا من أهل الأختصاص في اللغة ، بل كان جلهم سياسيون وإعلاميون ومستشرقون ومبشرون. ولذلك فقد عرّبوا المصطلحات الفكرية والسياسية كما شاء لهم الهوى أو الرغبة ، ولو شئنا ان نضرب لذلك أمثالاً لما وسعتنا المساحة أو المسافة. وأول تلك المصطلحات مفردة العلمانية نفسها التي لا علاقة لها بالإشتقاق من العلم في لغاتها الأصلية لاتينية أو أنجلوسكسونية . فهي في اللغة اللاتينية Laikos وفي اللغة الفرنسية المعاصرة Lacicite وهي تعني ما هو مستقل عن الهيئات الدينية الكنسية . بمعنى نفي الصفة الكنسية عن الشيء المراد وصفه باللائكي. وأما كلمة علمانية Secularism فهي بذات المعنى وقد استخدم المصطلح لوصف ما هو غير خاضع أو منتمي لسلطة الكنيسة . واستخدم لفظ سيكولار لأول مرة في دنيا السياسة مع ظهور الدولة القومية الحديثة في القرن السابع عشر والتي تعلن إنتماءها للدين المسيحي ولكنها ترفض الخضوع لسلطان الكنيسة، ثم جاء من يفسر العلمانية بمعنى الحياد بين المعتقدات.  ويدخل في هذا أبهام كثير فماذا يعني الحياد بين المعتقدات؟ هل يعني نفى القيم والمثل والمقاصد الدينية . فتصبح الدولة دولة مادية بلا قيم ولا مثل إلا الاستنفاع الآني . ولا مقاصد لدى هؤلاء وغايات عليا إلا الرفاه المادي. مما لاشك فيه أن دعاة العلمانية لم يتفقوا أبداً على هذا المعنى بل أن غالبية الممارسين للسياسة في الغرب أدخلوا القيم الدينية في رموز السياسة وفي أخلاقها وفي مقاصدها الثقافية والإجتماعية . ولم يتجرأ أحد على الدعوة الصريحة لاقصاء الدين عن السياسة جملة واحدة إلا العلمانيون الماديون. وهؤلاء وإن كان لهم حضور في الفكر والفلسفة ، فأنه لا ظهور لهم في السياسة . لأن السياسة تبغى مخاطبة الشعب بما يحب ويرضى . ولن ترضى الشعوب أبداً باقصاء القيم والقواعد والمقاصد الدينية عن الممارسة السياسية. ولكن أهل الإستشراق ممن مهد للاستعمار الفكري والسياسي وتلامذتهم من لاقطي فتات المغانم من تحت أرجلهم جعلوا العلمانية مرادفة للعلم ومناقضة للدين . مثلما عربوا كلمات كثيرة آخرى لتوافق المقاصد الاستعمارية الفكرية والسياسية. فمفردة مثل مفردة التعددية التي تُعظم وتُمجد هي تعريب سيء للغاية للمفردة الإنجليزية Pluralism . وهي تعني الجمعية أي حاصل جميع المتعددات والمفردة في جذورها الأصلية تحمل معنى الاجتماع ومعنى التعدد . فالجمع لا يكون الا لأعداد ولكن التعدد المراد ههنا هو التعدد المجتمع لا التعدد المبعثر المتفرق. وهذا معنى مهم ضائع في الثقافة السياسية المشرقية . لأن التعدد المجتمع هو ضمانة لحق الاختلاف ولتيسير الحوار والتكامل القائم على التنوع . ولكن التعدد المبعثر هو تكريس لحالة الفرقة والتباين والنزاع. والمعربون الاستعماريون أرادوا تكريس الفرقة والتباين والنزاع في الحالة السياسية المشرقية ، لأنها هي الضمان لاستقرار احتلالهم ونفوذهم وسلطانهم على السياسة الأهلية. ومصطلح آخر زوروه وزيفوه هو مصطلح Socialism  أي النزعة الاجتماعية ولكنهم عربوه إلى كلمة الاشتراكية وشتان ما بين الاجتماع والإشتراك.  فالنزعة الاجتماعية هي علوية الجماعة والمصلحة العامة والنفع العام . وأما الإشتراك فلا يعني ذلك بالضرورة . فالإشتراك يمكن ان يكون بين أيما أثنين أو يزيد ويمكن أن يكون موقوتاً أو مستمراً. والحديث عن الإشتراكية كان حديثاً لا يستنصر بالثقافة المجتمعية ولا بالعقائد التي توحد الناس في مجتمع متماسك بل هو حديث مادي يشترك الناس عنده في مصالح مادية فحسب. ولا أعتقد ان الذي تحاشى استخدام كلمة المجتمعية بديلاً عن الإشتراكية قد فعل ذلك سهواً . ولكن تقوية المجتمع واحياء معاني التكافل والتكامل العقدي والفكري والاخلاقي والمادي لم تكن من المراد الذي يتحراه هؤلاء . ولقد ظلت الحركات الإسلامية تدعو للعدالة الاجتماعية وان لا يصير المال دولة بين الأغنياء وأن لا تصبح الأموال حائلاً دون أخوة الأيمان وأخوة الأنسان . فالطبقية مذمومة في الفكر الإسلامي والمال الذي يكتنز لمصلحة الأفراد ولا يوظف للمصلحة العامة مال مذموم وهو وبال على أصحابه في الدنيا وفي الآخرة.
وأما المثال الأخير الذي نسوقه ههنا فهو تعريب الدولة المدنية وكأن مدنيتها تعني لا دينيتها . وهذا تزييف عظيم. فلو أنهم قالوا أنها الدولة التي لا يشترط ان يحكمها علماء الدين الشرعيون لوجدوا منا بعض الموافقة. ولو قالوا أنها الدولة التي يفصل فيها بين المؤسسات الدينية التعبدية وبين مؤسسات النفع العام لوجدوا منا بعض التصديق . ولو قالوا أنها الدولة التي لا تكون سلماً للعسكريين دون غيرهم لوجدوا منا بعض التأمين على ما يقولون. ولكن لا سبيل لهم للقول أنها دولة بلا مرجعية فكرية ولا دينية ولا معتقدية . لأن دولة مثل هذا لا توجد في الواقع المعاش وليست بمتصورة إلا في أذهان بعض الفلاسفة وأصحاب الأهواء ممن لا يريد أن يقيده شيء من الدين أو أن يحد من رغباته وشهواته معتقد أو فكرة أو قيمة أو مثال.
الدولة المدنية ما هي:-
        وإذا شئنا المضى للمعنى بغير تلكؤ فالدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على الحق المتساوي للمواطنين في تطوير حياتهم وترقية معاشهم . وهي الدولة التي تحترم حرية المعتقد والفكر . وهي الدولة التي ترتكز على مفهوم سيادة القانون وهي باختصار الدولة التي هي سبيل من يحيا فيها إلى حياة متحضرة متطورة مادياً وإنسانياً. والدولة المدنية كما سبق لنا ان عرفناها هي تلك الدولة التي يصنع صورتها المواطنون باجماعهم أو سوادهم الأعظم أو غالبيتهم. وهي مدنية لأن معنى المدنية هو المعنى الذي يتصل بمعنى الحضارة حتى يكاد يتماهى معها. هي دولة المجتمع الحضري الذي يسعى نحو التقدم والإرتقاء. والكلمة الإنجليزية Civilization تعرب إلى حضارة وإلى مدنية ومفردة Civic تعرب إلى (مدني) و(Civil) كذلك ومن ذلك المجتمع المدني والحقوق المدنية. والمجتمع المدني هو المجتمع الذي ينتظم بارادة أفراده أنفسهم دون حاجة إلى قهر من سلطان الدولة. والحقوق المدنية لا تكون مدنية إلا إذا كانت الحقوق والواجبات تُحدد على أساس المواطنة المتساوية (سواسية كأسنان المشط) ولا يُفرق بين المواطنين على أساس الملة أو المال أو المذهب أو العرق أو اللون أو النوع. فالدولة التي تُنسب للمدنية هي دولة لأناس متحضرون يسعون للرقي والتقدم . ويحققون ذلك باتحادهم على رؤية مشتركة لمفهوم هذا الإرتقاء والتقدم مع ما هم عليه من تنوع في الأديان وفي المذاهب والجهات والطبقات والأعراف والثقافات. والعلامة المائزة للدولة المدنية هي تفرعها عن فكرة المساواة في الانتماء للوطن أي فكرة المواطنة. أما فكرة فصل الدين عن الدولة (ما يسمى بالعلمانية) فهي ليست بالعلامة المائزة للدولة المدنية . فالدولة قد تكون علمانية مثل دولة اسرائيل ولكنها ليست دولة مدنية بل هي دولة يهودية دينية تفرق بين المواطنين . وترى لليهود حقاً في البلد أكبر من حقوق الآخرين، بل هي تفرق بين مواطنيها على أساس عرقي . فهولاء  يهود غربيون وأولئك يهود شرقيون وغيرهم فلاشا . ولكل  طبقة حظ ليس مثل حظوط الآخرين. ولكم من دولة علمانية التوجه ولكنها دولة ليست بمدنية لأنها تفرق بين مواطنيها على أساس طائفي فهي دولة طائفية وليست بمدنية . ولعل الأنموذج الطائفي الذي يثور عليه الآن الشباب اللبناني يمثل صورة أخرى لدولة علمانية تتأسس فيها الحقوق والحظوظ والواجبات والأعباء على أساس الطائفة لا أساس المواطنة المتساوية.

نواصل

الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

الإسلاميون والدولة المدنية (1-3)



        يدور سجال في عدة إتجاهات بعد تسنم الإسلاميين سدة السلطة في تونس وإتجاههم نحوها بخطىٍ ثابتة في المغرب وليبيا ومصر. وهذا السجال يدور بين الإسلاميين وخصومهم حول طبيعة الدولة التي سوف يحكمها الإسلاميون هل هي أسلامية أم مدنية أم هي علمانية. وهنالك سجال آخر يدور بين الإسلاميين أنفسهم بين التيار العملي والتيارات الشكلية حول شرعية قيام دولة مدنية ، وهل يتماهى ذلك مع الدولة الإسلامية التي هي الحلم التاريخي للإسلاميين ؟ أم هل يتوافق معها؟. وفي الحالتين فأن الحوار فيه كثير من الشطط واللغط والبعد عن التحليل البارد للمعطيات والتفكير الهادي في الأمور. وهي حالة تنتج عن حالة التعصب الإيدولوجي أو الحزبي لدى هذا الطرف أو ذاك ، ولكن الحقائق حول الموضوعات ستظل ثابتة لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً ولا تتأثر بما يحب هؤلاء وما يكره أولئك.
الدولة المدنية ..  لماذا السجال؟
        لم يبدأ احتدام السجال حول ضرورة الدولة المدنية ومعناها وتوافقاتها وتناقضاتها إلا مؤخراً. وذلك بسبب اشتعال الثورات الشعبية في المنطقة العربية. ولكن الحديث عن مدنية الدولة قديم وليس بالجديد، بيد أن بروز المظهر الإسلامي للثورات العربية جاء بالقضية إلى واجهة الحوار السياسي. ذلك أن دولاً غربية كثيرة كانت تخشى وتدفع مجيء الإسلاميين للسلطة وليس ما جرى في تركيا من قبل والجزائر ببعيد ، ولكنها أدركت الآن أنه لا مدفع لأقدار الله  التي التقت بإرادة الشعوب العازمة على تغيير ما بها (لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيٌروا ما بأنفسهم)، والذي يماري ويكابر في الهوية الإسلامية للثورة العربية مخادع لنفسه. وتلك رذيلة لم تبتلي بها الدول الغربية وأن إبتلي بها فئام كثير من أهل الأيدولوجيا في العالمين العربي والإسلامي. سواءً العلمانيون منهم أو الإسلاميون . وباتت دوائر الغرب الرسمية وغير الرسمية تدرك أن عليها التعامل مع واقع يسوده سياسياً الإسلاميون . ولذلك بدأت معركة الأفكار تحتدم. والصراع بين الإسلام وخصومه هو أولاً صراع عقائد وأفكار ثم صراع ثقافات وقيم ثم صراع مصالح ومنافع ثم صراع سلطان وقوة. والغرب يدرك أنه يملك أدوات فاعلة لتحقيق الغلبة في الميدان الرئيس للصراع وهي ميدان العقائد والأفكار. وهذه الأدوات التي لا يكابر عاقل في فاعليتها هي قوة الإعلام القاهرة وقوة المعلومات التي تتدفق كما تتدفق المحيطات الموارة عبر الشبكات و هي القوة الأقل تكلفة والأبعد أثراً في حسم المعركة مع الإسلام والإسلاميين. ولذلك بدأت معركة التشكيك الكبرى في قدرة الإسلاميين على إدارة الدولة الحديثة وكأنهم جاءوا للتو من الكهوف . وأستمر التشكيك في قدرة الفكرة الإسلامية على الاستجابة لتحديات الراهن الإنساني . وهو تشكيك ينصب على الشعوب وعلى الإسلاميين على حدٍ سواء. فالإسلاميون يقال لهم لقد وصلتم للسلطة وبأمكانكم النجاح وفي مكنتكم الإصلاح . وها لديكم قصة نجاح كبرى في تركيا لماذا لا تحتذونها وتركبون مركبها وتتجهون نحو مقصدها. فهي ستقودكم إلى الاستجابة لحاجات شعوبكم وإلى قبول الغرب لكم كما تقبل حكام تركيا من الإسلاميين المعتدلين. وكما قيل من قبل عن تجربة محاضر محمد الإسلامية المعتدلة في ماليزيا. وأما الشعوب فيقال لها أن الإسلاميين متعصبون وأنهم أهل إملاء وتحكم وأنهم ايدولوجيون متطرفون. وأنهم بسبيل انشاء دولة الإسلام السياسي التي لا تتسع إلا لهم. وان ديمقراطيتهم هي مثل ديمقراطية هتلر تعمل لمرة واحدة لايصالهم للحكم ثم يرمى بها إلى مذبلة التاريخ. ليعودوا إلى الدولة الشمولية ذات الفكرة الواحدة والعقيدة الواحدة والوجهة الواحدة. ويضربون لذلك أمثالاً من أقوال مسموعة ومكتوبة لاسلاميين من التيار الشكلي الظاهري الذي يعرف من الإسلام شكوله ومظاهره بأكثر مما يعرف عدالته ورحمته وإكرامه وأعزازه للإنسانية العابدة والجاحدة على حدٍ سواء.
التجربة التركية والدولة المدنية
        ولقد راج كثيراً في الأوقات الأخيرة حديث كثير عن ملاءمة الانموذج التركي الذي أرسى تجربته حزب العدالة والتنمية لواقع المنطقة العربية والإسلامية . وأنه الانموذج الذي يحب أن يحتذيه الإسلاميون حتى أن أحزاباً أغرمت بالاسم نفسه فتسمت به كلياً أو جزئياً. ولا تثريب على أحدٍ ان يُعجبُ بالتجربة التركية. فهي قصة نجاح لا شك فيها ولكن الملامة على من يريد ان يتبع سبيلها حذو القذة بالقذة. وأن يحاكي تجربتها كما يتعلم الطفل رسم الخط أو كتابة الأرقام. فلاشك أن حزب العدالة والتنمية قد أنشأ دولة مدنية ناجحة في تركيا . وأنه نقل البلاد من الهيمنة المطلقة للعسكرية التركية على مقاليد الأمور إلى تحول تدريجي للسلطة إلى أيدى المدنيين. وأنه حقق نحاجات كبرى في مجال تعزيز الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين دون تمييز. وأنه يتنقل بخطوات بطيئة ولكنها واثقة لإدماج الأكراد في الوطنية التركية بتعزيز حقوقهم السياسية والمدنية والثقافية. وأنه يعمل بجدية لتكريس حقوق المرأة وتطويرها وحقوق الأقليات وصيانتها. ونجح الحزب في احترام قواعد الممارسة السياسية وفي توسيع صلاحية المواطن بتمكينه من انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة. ولم يتلاعب الحزب بالقواعد السياسية أو القواعد الإنتخابية لتعزيز حظوظه في السلطة. ومن جانب آخر حقق حزب العدالة والتنمية نجاحات كبرى في مجال التنمية والاقتصاد. فتحسنت أوضاع المواطنين وتطورت أحوال الأعمال والإستثمار. وشهدت البلاد نهضة غير مسبوقة منذ العصر الذهبي للعثمانيين. ولاشك أن في تلك الانجازات جميعاً تحقيق لرؤى ولمقاصد أسلامية . وأن أنموذج حزب العدالة والتنمية التركي قد أقام دولة مدنية متطورة في تركيا إلا أنه تبقى أن يُعرب وان يقال بوضوح أنه مهما كانت قوة الإلتزام الإسلامي لرجال مثل أردوغان وقل فان مرجعية الدولة في تركيا ظلت مرجعية علمانية. وأنهم بالفعل فى حزب العدالة والتنمية قد عززوا الدولة المدنية في تركيا ولكنها دولة مدنية بمرجعية علمانية. وتحري العدل يدعونا إلى القول ان المرجعية العلمانية على عهد العدالة والتنمية ليست هي ذات المرجعية العلمانية على عهد من سبقوهم. فلئن كان الاسلام مذاهب ومدارس فأن العلمانية نفسها مذاهب ومدارس . والمدرسة العلمانية التركية والمرجعية العلمانية التركية لم تكن هي علمانية الحياد بازاء الأديان كما هي في بلدان أوربية كثيرة بل كانت هي علمانية العداء للدين، وبخاصة الدين الإسلامي. فلقد كانت العلمانية التركية علمانية متشددة متطرفة متعصبة. وحاولت على عهد كمال اتاتورك أن تنزع الناس من جذورهم العقدية والفكرية والثقافية والاخلاقية. وسعت إلى فرض الانموذج الغربي بما هو موجب فيه وما هو سالب على الناس جميعاً بقوة القانون وبقهر السلطة بل بعسفها وتجاوزها على كل ما هو ديمقراطي أو إنساني. ولكي يتمكن الحكام العلمانيون من قهر شعبهم سعوا إلى وضع قوة العسكرية التركية التي أذاقت أوربا المرارات تحت إمرة حلف الأطلسي. فأصبح الجيش التركي أكبر قوة برية تابعة للحلف الأطلسي. وجرى إعادة بناء الجيش ليكون أداة ردع في يد الأطلسي بازاء حلف وارسو. واداةً بيد القوى الغربية بازاء إي تهديد ناشيء من انبعاث الإسلام من جديد في تركيا التي وصلت جيوشها في يوم من الأيام إلى فينا في قلب أوربا. كل هذا الفضل نعزوه لحزب العدالة والتنمية الذي غيَر علمانية تركيا من علمانية متوحشة إلى علمانية مستأنسة. ونحن نحفظ له الفضل في ذلك ولكننا نريد في منطقتنا العربية دولة مدنية  بمرجعية تشابه هوية شعوبها وأعرافها وميراثها العقدي والفكري والثقافي ، وهذه المرجعية ليست إلا المرجعية الإسلامية. ومهما كانت نجاحات حزب العدالة والتنمية في إقامة دولة مدنية متطورة فأن هذا لن يحبب إلينا العلمانية ولن بجعلها سائغة في عقولنا ولا قلوبنا. ولئن كان مفروضاً على حزب العدالة والتنمية أن يرتضي في مراحل التحول نحو تحقيق الإرادة الشعبية الكاملة القبول بالعلمانية وتطويرها من علمانية معادية إلى علمانية محايدة ثم ربما من بعد إلى علمانية متوافقة مع الهوية الوطنية ثم إلى دولة مدنية بمرجعية أسلامية تقطع مع العلمانية لتصل مع الشعب التركي المسلم الصميم فذلك قدر الأتراك ولكن الأمة العربية قد نهضت لتصنع اقدارها بالعزائم التي لا تلين وبالإستجابة لوطنها ولدينها ولربها الهاديها إلى صراط مستقيم.
ونواصل

حصاد المؤتمر 1-2



      أنهي المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني أعماله. ولم تكن تلك خاتمة لأعمال المؤتمر القومي فحسب بل هي خاتمة لأعمال آلاف المؤتمرات قاربت العشرين ألف مؤتمر على مستوى الأساس والمحليات والولايات. دار فيها حوار كثيف حول المرحلة المقبلة والتحديات المشهودة والمتوقعة . والموجهات والمقاربات الصحيحة للحلول والمؤشرات الدقيقة والمسددة للسيسات والتصرفات الحكومية في الفترة القادمة. ومها تكن لنا من ملاحظات على أداء المؤتمر الوطني فان تجربته الحزبية ترسم تاريخاً جديداً في كراسة الوطن السياسية وترسى تجارب جديرة بالفحص والدراسة لدى عقلاء القادة السياسيين في سبل تطوير التجربة الحزبية والسياسية في السودان.
وقائع المؤتمر
        قدمت بين يدي المؤتمر تقارير عديدة كان أهمها تقرير عن الأداء الحزبي وآخر عن الأداء التنفيذي وثالث عن الاداء الحزبي في الولايات ورابع عن الاداء التنفيذي في الولايات وشملت هذه التقارير وصفاً يكاد يرسم الصورة الكلية لحالة الاتحاد في عامين. ولمن هو من القراء على إطلاع على مصطلح حالة الاتحاد لا نحتاج إلى توضيح ولكن لفائدة البقية نذكر أن خطاب أو تقرير حالة الاتحاد خطاب State of the Union هي سنةُ سنها الرئيس ابراهام لنكولن . وهو خطاب سنوي يخاطب به الأمة من خلال مخاطبته لمجلس الشيوخ والنواب يصف فيه التحديات الماثلة مهما كانت عظيمة مثل تمرد ولايات الجنوب باكملها على الاتحاد أو كانت عادية مثل مشاغل المواطنين في المعيشة اليومية. وقد استقر هذا التقليد في السياسة الامريكية إلى يومنا هذا . ولا يزال الرؤساء الأمريكيون يظهرون اهتماماً عظيماً بخطاب حالة الأمة أو حالة الاتحاد ويعدون له إعداداً دقيقاً ويحفلون كثيراً بما يمكن عرضه من انجازات ماثلة على الصعيدين الداخلي أو الخارجي أو أفكار جديدة لمواجهة تحديات بارزة أو مشاغل مهمة للمواطنين مثل قضية أصلاح نظام الضمان الإجتماعي أو قضية البطالة أو قضية محاصرة تداعي المؤسسات المالية.
        ولاشك عندي أننا نحتاج إلى جهد مضاعف لبلوغ مرحلة التقرير الدقيق والمفصل ذي الطابع العلمي الذي يتحسس من عبارات المباهاة ويكثر من الاشارة للتقصيرويطنب القول  في تفسير الصعوبات والمعوقات مع نسبتها إلى أسبابها ومسببها. ولكننا مهما يقول الشانئون عنا قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح ولئن كان الطريق يمتد أمامنا لالف ميل فقد قطعنا الميل الأول منه بحمد الله وتوفيقه وتسديده.
تقرير الاداء الحزبي والتنفيذي
        أول الملاحظات حول تقريري الأداء الحزبي والتنفيذي أنها كتبت لغرض العرض على المؤتمر. ولذلك لم تخلو من نقص ظاهر في المعلومات وإبتسار غير موفق للتحليل والتفسير.  ولكن ذلك لا يعني أن التقارير لم تعط صورة للاداء على وجه تقريبي لمن يبحث ويفحص. بيد أن عيب القادر على التمام أكبر من عيب العاجز عنه . والمؤتمر الوطني في وضع لا يعجزه من الحصول على المعلومات عن الأوضاع الحزبية أو التنفيذية أولاً بأول . ولابد لنا من تطوير نظام الرصد والاحصاء ليصبح برنامجاً للرصد والأحصاء الفوري لحظة بلحظة، ولم يعد ذلك بالأمر العسير بل هو مجرد برنامج حاسوب يمكن أن تنتهي إليه الشبكات بالمعلومات التفصيلية عن الاداء ساعة بساعة وهذا هو النظام المعمول به الآن في المصارف التي أصبحت تستطيع أن تحدد للمستثمرين أرباحهم اليومية ولن تعجز دولة مثل دولتنا توفرت له أدوات ذلك من شبكات واتصالات وبرمجيات فلا عتبى عن تقصير مثل هذا التقصير لأنه بالإستطاعة والمكنة سواء كانت مكن الاستطاعة تقانة تتمثل في الوسائط والوسائل أو معرفة Know how تتمثل في القدرات الفنية والعلمية فكل ذلك متاح للمؤتمر الوطني.
المؤتمر الوطني وثروته البشرية
        ولعل أول ما يحمد لهذا المؤتمر إنتباهه للقطاعات المتخصصة فتعديلات النظام الأساس أوصت بزيادة ممثلى القطاعات في الأجهزة القيادية . ولكن ذلك وحده لن يكون كافياً فلابد من إعادة ترتيب نظم إعداد السياسات واتخاذ القرارات بحيث يكون للقطاعات دور مهم في دراسة السياسات واتخاذ القرارات. فالقطاعات المتخصصة هي خزان الثروة البشرية للمؤتمر الوطني فهنالك تحشد عشرات الالآف من الكوادر المتخصصة والخبرات النادرة . ولكن ترتيب الأوضاع بالصورة الملائمة التي تيسر الاستفادة من التخصصات والخبرات والطاقات هو الفشل الأكبر للمؤتمر الوطني. ولابد بعد الانتباه لأهمية القطاعات من إعادة ترتيب ميكانيكية العمل في المؤتمر الوطني لإعطاء الدور الرئيس للقطاعات في دراسة السياسات ومردودها وحظها في الفاعلية والمقبولية. ولا يقتضي هذا الأمر تعديلاً في النظام الأساس بقدر ما يقتضي تعديلاً في آلية إعداد الدراسات والخيارات . فالقطاع الصحي على وجه ضرب المثل هو الذي ينبغي أن يعهد إليه بتقويم السياسات الصحية المعتمدة الآن ومردودها ومقبوليتها ودراسة البدائل وتقدير نجاعة الحلول المعتمدة للمشكلات الماثلة. والقطاع الإعلامي هو الذي يتوجب أن يكون المرجعية لدراسة السياسات الإعلامية وتقويم آداء المؤسسات . والقطاع الإقتصادي هو الذي ينبغى عليه دراسة الأوضاع الإقتصادية واقتراح السياسات المالية والنقدية وتقرير نجاعة التصرفات والقرارات الحكومية في هذا الصدد. ولذلك فان تعديل النظام الاساس لوضع القطاعات في مركز اتخاذ القرار كان خطوة موفقة بل لعلها اجترحت  تحولاً تاريخياً في مسيرة المؤتمر الوطني سيكون له ما بعده بأذن الله.
رؤية المؤتمر الوطني
        كان إعتماد المؤتمر الوطني لرؤيته للقضايا الكلية بما يشمل تحكيم الشريعة الإسلامية وتأسيس الدستور خطوة مهمة في تحديد المنهج الكلي للسياسات والمواقف الحزبية في المرحلة المقبلة. وهذه تم اعتمادها باعتماد ورقة أفق جديد والتي اشتملت على الرؤية والتحديات والموجهات والسياسات. والورقة قررت ان رؤية المؤتمر الوطني هي رؤية وسطية تهدف إلى إحداث تطور في المجتمع على طريق التحول الاجتماعي على نهج الإسلام ، ولبعث دورة جديدة من دورات الحضارة الإسلامية. وهي تعتمد المنهج المتدرج لاستعادة روح الإسلام للحياة العامة والخاصة في السودان. وهي تهدف إلى تمليك المشروع الإسلامي للشعب السوداني ليعيشه منهجاً ووجداناً وسلوكاً يعمل على تمكينه في شعاب الحياة كافة فقهاً مستقراً ويتفاني من أجله جهداً وجهاداً واستشهاداً ويقننه دستوراً ويسنه تشريعات وبرامجاً ونظماً في أطر الدولة والمجتمع. وتهدف الرؤية إلى أتاحة الفرصة للمجتمع ليتقدم على الدولة ولكى تصبح الدولة منظمة وداعمة للمبادرات الأهلية والمدنية أكثر منها مشغلة لكافة ضروب النشاط نيابة عن المجتمع. فشعار المرحلة هو تعزيز طوعية العمل وتقليل تدخل السطات وهذا لا يعني الاستغناء عن التخطيط التأشيرى الذي لا يسد أفق المبادرات ولا  الأفكار الجديدة المبدعة. وتهدف الرؤية على صعيد الدولة إلى تعزيز دور المؤسسات في الدولة لتصبح الدولة دولة القانون التي تسود فيها المؤسسات ويُمضي فيها حكم القانون على الجميع بلا إستثناءات ولا محاباة ولا حصانات ولا تحيزات . ولتصبح المواطنة هي الأساس الأوحد لتحديد الواجبات والحقوق . ولذلك فهي دولة مدنية دستورية بمرجعية إسلامية. تسعى لتعزيز الهوية السودانية لتكون أكثر انسجاماً وتوحداً باصولها العربية والأفريقية وبمراعاتها للتنوع والتعدد في مكوناتها. وهي دولة شورية ديمقراطية يسعى فيها الجميع لتعزيز التناصح والتصالح والمشاركة ويعملون على تطوير آليات الحوار وتنويعها سعياً به إلى توافق إجتماعي وسياسي ووصولاً عن طريقه لإتفاق على ثوابت الوطنية السودانية ومقاصدها الكلية التي لا يختلف حولها الفرقاء مهما اختلفت الرؤى وتعددت الآراء.
نواصل ،،،

السبت، 26 نوفمبر 2011

المؤتمر الوطني..تجديد الذات الحزبية

'via Blog this'ينعقد المؤتمر العام للمؤتمر الوطني في دورته النصفية في ظروف متميزة. وهي ظروف تحفل بالتحديات والفرص وكثير من التوقعات والتطلعات من الشعب وأعضاء الحزب علي وجه سواء. وقد يصح النظر إلي المؤتمر العام الذي هو مؤتمر تنشيطي ليس موجهاً لبناء المؤسسات علي أنه يقل أهمية عن مؤتمر البناء المؤسسي. بيد إن الأمر في هذه المرة مختلف إلي حد ما. فإن إقبال السودان جميعاً علي مراجعات مهمة توطئة لإقرار دستور جديد يقتضي إجراء مراجعات مهمة قبل ذلك في المؤتمر الوطني الذي يُتوقع منه أن يقود مسيرة المراجعة وإعادة التأسيس. ولذلك فان انعقاد المؤتمر العام في مثل هذه الظروف يقتضي إبداء اهتمام عظيم بأجندة ومخرجات هذا المؤتمر التاريخي. وأول مقتضيات هذا الاهتمام إتاحة فرصة حقيقية لحوار صريح وشفاف وناقد لموجهات عمل الحزب ولسياساته وإجراء تقويم دقيق ورصين لأداء الحزب وقدرته علي الحفاظ علي الثقة الغالية والكبيرة التي نالها من جمهور الشعب السوداني في انتخابات العام الماضي.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا:
والقول المأثور آنفاً هو من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم . والمحاسبة المقصودة هي المراجعة المستمرة لدي كل شخصية حقيقية أو شخصية اعتباريه لرؤاها ولأفكارها ولأدائها ولإعمالها . لأن الإعمال جميعاً مرئية لله سبحانه وتعالي ومرئية للشعب "وسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون". فمفهوم المراجعة والمحاسبة هو وسيلة كل إنسان لتجديد وجدانه وتجديد إيمانه . وتجديد رؤاه وتصويب نواياه وتحسين عمله . لأن الرضي عن النفس هو خلق إبليس لعنه الله وأبعده عن دولتنا وحزبنا وقيادتنا . وابعد عنا أعوانه من شيطان الأنس والجن. إن انعقاد المؤتمر الوطني فرصة انفقت لتحقيقها أموال كثيرة وجهوداً كبيرة . ولا يجب أن تضيع في المجادلة العقيمة أو المداهنة والمداجاة وتبادل عبارات التمجيد والتقريظ. لذلك فأنني أدعو الجهة المنظمة للمؤتمر أن تحرص علي التفرقة بين الجلسات العلنية للمؤتمر وبين جلسات التداول التي ينبغي أن تُبعد عنها الصحافة والإعلام والضيوف. وكل من هو ليس عضواً فاعلاً في المؤتمر وان يشجع الناس من خلال تحديد الأجندة المناسبة وتخصيص الأوقات الكافية وتحضير الأوراق الجيدة لإثراء التداول . ولإبراز الخيارات في السياسات وإبداء اهتمام اكبر بمضمون المخرجات التي يتوجب أن تتصل اتصالاً عضوياً بما يتوقعه الشعب السوداني وقاعدة المؤتمر الوطني من هذا الاجتماع الكبير والمهم والخطير.
يتوجب أن يشار إلي هذا المؤتمر فيما بعد بحسبانه المؤتمر الذي نقل حزب المؤتمر الوطني من حالً الي حال جديدومن مرحلة الى مرحلة أخرى . وأزال كثير من الغموض في السياسات وحرك من جمود كثير من القطاعات والمؤسسات. وشهد مولد الكثير من القيادات وطرح العديد من الأفكار في ساحته الحزبية وفي الساحة السياسية العامة علي حدٍ سواء. ان التحديات الكبرى هي التي تصنع القيادات العظيمة . ولئن كان المؤتمر الوطني يواجه تحديات كبيرة في إعادة تأسيس النظام الدستوري بما تؤسس للاستقرار وفاعلية المؤسسات السياسية وفي إعادة تنظيم الاقتصاد الوطني لتجاوز عنق الزجاجة التي دخلها بانفصال الجنوب وعجز قيادة الدولة الجديدة عن التجاوب مع سياسة التعاون الايجابي وترسيخ حسن الجوار. فانه كذلك يواجه تحديات التحولات الإقليمية وفرصها التي قد لا تتكرر . وكيفية الاستقواء بما يجري في الإقليم لا الإحساس بالانكشاف والضعف والتعرض للاحتمالات. يتوجب علي المؤتمر الوطني أن يحُسن قراءة المتغيرات المتسارعه داخلياً وخارجياً . وهي قراءة تستوجب الهدوء بل البرود التام . كما تستدعي تشاؤم النظر العقلي بأن لا نستبعد الاحتمالات الأسوأ فان سياسة التهوين من المهددات والمعوقات ليست بأقل سؤاً من سياسة التهويل لها. فلئن كان التهويل يؤدي إلي إساءة استخدام الموارد وإضعاف الروح المعنوية وإفشال نظام الأولويات فان التهوين من التحديات والمعوقات يفضى إلى ضعف الاستعداد للمجابهة . ويؤدي الى الارتباك الناشئ عن التفاجؤ بمتغيرات ما كان يجب أن تكون سبباً للمفاجأة. بيد انه في جميع الأحوال يجب علي الحزب أن يتحلي بالثقة في النفس والاعتداد بالقدرات والتيقن بإمكانية العبور فوق كل العوائق والوصول رغم كل التحديات. فلئن كان يطلب عند النظر تشاؤم القراءة فانه عند العمل لابد من تفاؤل الإرادة . تفاؤلاً يبعث على الثقة لدى القواعد ولدى الشعب.
الخطاب السياسي.. قولاً وعملاً
والخطاب السياسي واحد من الأمور التي يتوجب أن تخضع لمراجعة دقيقة ولدراسة رصينة. وان ندرك أن خطاب الأحزاب لقواعدها ولشعبها ليس بالكلمات الطنانة ولا بالخطب الرنانة. وإنما بوضوح الأفكار وجلاء السياسات والجرأة في الطرح والقدرة علي الاعتراف بالخطأ ومراجعته. والخطاب رغم أن الأوضح في شأنه هو القول والكلام فإن الأحزاب لا تخاطب الناس بأقوالها فحسب بل تخاطبهم بأعمالها أولاً . فالحديث عن النزاهة ومكافحة الفساد علي سبيل المثال يتوجب أن يترافق مع بناء مؤسسات فاعلة وشفافة وحائزه علي ثقة الشعب لتنهض بهذا الواجب . كما يجب أن يتصل بسياسة حازمة للمحاسبة العاجلة والناجزة والعادلة التي لا تري في المفسد إلا فساده وتعمي عن رؤية انتماءاته الاجتماعية والحزبية والسياسية. والحديث عن رفع المعاناة عن الناس يجب أن يرتبط بسياسة اقتصادية تقوم علي أساس إستراتيجية منحازة للضعفاء في سياساتها الضريبية وفي دعمها الاجتماعي وفي سياساتها التمويلية والتشغيلية. فلا ينبغى أن يتساوي الغني والفقير عند استقطاع أية ضريبة أو رسم. ولا يجب أن يكون الدعم للغني والفقير علي حدٍ سواء لأنه حينئذ سيكون منحازاً للأغنياء. فاستهلاك الأغنياء من كل سلعة مدعومة هو أكثر واكبر بكثير من استهلاك الفقراء. ولا يجب في سياسات التمويل أن تُيسر الضمانات على الأغنياء وتُعسر علي الفقراء . وإنما يجب أن يطلب من الغني ما يضمن التزامه بالسداد وان تنشأ الصناديق ومؤسسات التأمين بما يساعد علي تدفق التمويل للفقراء . وفي سياسات التشغيل يتوجب إلي جانب شروط المنافسة الأخري التي تحدد الكفاءة وتحاصر المحسوبية أن تُعطي نقاط لصالح تشغيل أبناء الفئات الأضعف والأفقر. ذلك أن المحسوبية لا تعمل إلا لصالح أصحاب الأموال أو أصحاب النفوذ ولا يشقي بها إلا من هو عاطل من المال والنفوذ علي حدٍ سواء.
لقد استمع الشعب السوداني طويلاً لخطابات وخطب كثيرة وطويلة ويتوجب علينا بعد الآن أن نلتزم بوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم "رحم الله أمرءاً أمسك الفضل من قوله وأنفق الفضل من ماله" يتوجب علينا الاقتصاد في الكلام والاجتهاد في العمل . فإن فعلنا نزلت علينا الطمأنينة والثقة وطمعنا في رضوان الله ومن رضي عنه الله أرضي عنه الناس جميعاً ولو كان بعضهم له كارهون والله هو الموفق والمسدد والهادي إلي سواء السبيل.
إنتهـــــــــــــــــــــــــــــــــي،،،