تحدثنا في المقالات السابقة عن علاقة الشريعة بالسياسة و بالمشروع الحضاري الاسلامي . واوضحنا أن مقصد الشريعة هو الاستمداد من الهدي الالهي لتحسين الحياة والارتقاء بانسانية الانسان. كما اوضحنا ان المشروع الحضاري الاسلامي الذي تبشر به الحركات الاسلامية هو احياء الاسلام وتجديده ليقود الحياة الي الرقي المادي والثقافي والروحي والاخلاقي. واذا كان المشروع الحضاري الاسلامي هو رؤية الحركات الاسلامية النهضوية للترقي والتقدم فإن المشروع الوطني السوداني هو المشروع الذي يتوجب أن يتوافق عليه جميع السودانين المسلم منهم وغير المسلم، المحافظ والمتحرر ذو التوجهات اليمينية وذو التوجهات اليسارية فمهما اختلفت الايدولوجيات والرؤي فان الالتزام الوطني الحق يوجب التوافق علي حدٍ أدني من الاتفاق علي رؤية شاملة للنهوض بالوطن المشترك الذي يسع الجميع ويتساوي فيه الجميع.
ملامح المشروع الوطني السوداني:-
أهم ملامح المشروع الوطني السوداني ان مركزه هى فكرة الوطن نفسها. فالوطن هو الذي يدور حوله الجميع ويدندنون اهازيج الحب والولاء له. وليس هنالك متعايش في هذا الوطن أحق به من سواه علي اختلاف الملل والنحل والالوان والاعراق. والانتماء للوطن الذي هو المواطنة هو معيار الحقوق والواجبات. لذلك فان دولة الوطن هي الدولة المدنية التي يصنع صورتها المواطنون باجماعهم او بسوادهم الاعظم او غالبيتهم وهي مدنية لأن معني المدنية هو المعني الذى يتصل بمعني الحضارة حتي يكاد يتماهي معها. هو الانتماء الي مجتمع حضري يسعي نحو التقدم والارتقاء. والكلمة الانجليزية Civilization تعرب الي حضارة والي مدينة ومفردة civic التى تعرب (مدني) ومنها المجتمع المدني Civil Society والحقوق المدنية Civil Rights كلمة تشير الي هذه النسبة اللصيقة بين ما هو مدني وما هو حضري. والمجتمع المدني هو المجتمع الذي ينتظم بأرادة افراده انفسهم دون حاجة الي قهر من سلطان الدولة . والحقوق المدنية هي تلك الحقوق التي يكتسبها الفرد بمجرد الوجود في ذلك المجتمع. وقد يحلو للبعض ان يجعل كلمة دولة مدنية مقابلة لكلمة عسكرية وليس هنالك دولة عسكرية ولكن هنالك حكم عسكري لدولة قد تكون دولة دينية او طائفية او طبقية او غيرها . والمعول علي وصف الدولة في هذه الحالة هي العلاقات التي تقوم بين الافراد والمؤسسات وكيفية تحديد الواجبات واكتساب الحقوق. فاذا كانت العلاقات تتحدد علي اساس الانتماء الدينى والواجبات والحقوق تأسس علي الملة فتلك دولة دينية . واذا كان ذلك علي اساس المذهب والنحلة فتلك دولة طائفية , واذا كانت تتأسس علي اساس طبقي يفرق في الحقوق والواجبات بين من يملك ومن لا يملك فهى دولة طبقية او هي رأسمالية او براجوزية ان شئت استخدام المصطلح الماركسى. ولا تكون الدولة مدنية إلا اذا كانت العلاقات فيها تؤسس علي اساس المواطنة المتساوية والحقوق تكتسب علي اساس المواطنة لا تفرق بين المواطنين حسب لون او عرق او نوع او جهة. فالدولة التي تنسب للمدنية هي دولة لأناس متحضرون يسعون للرقي والتقدم . ويحققون ذلك باتحادهم علي رؤية مشتركة لمفهوم لهذا الارتقاء والتقدم مع ما هم عليه من تنوع في الاديان والمذاهب والجهات والطبقات والاعراف والثقافات. وقد يلاحظ بعض القراء أن اصحاب الاتجاه العلماني الذي يفصل الدين عن الحياة العامة وعن السياسة بوجهٍ أخص اصبحوا يميلون الي استخدام دولة مدنية وكأنه المرادف لدولة علمانية . وليس هذا بصحيح فالعلامة المائزة للدولة المدنية هي تفرعها عن فكرة المساواة في الانتماء للوطن اي فكرة المواطنه . أما فكرة فصل الدين عن الدولة فهي مثل ان تكون اسرائيل دولة علمانية ولكنها ليست دولة مدنية . لأنها تفرق بين مواطنيها علي اساس عرقي وعلي اساس ديني بل علي اساس جهوي حتي بين اليهود انفسهم غربين وشرقين. وعلي اساس عرقي حتي بين اليهود انفسهم بين اليهود البيض واليهود السود الفلاشا. وكم من دولة في ما نري من الدول علمانية التوجه وطائفية الفكرة تفرق بين حقوق المواطنين لاختلاف نحلهم ومذاهبهم ولعل الانموذج الطائفي الذي أعلن الشباب اللبناني عليه الثورة صورة أخري لدولة علمانية تؤثر الطائفية فيها الي مديٍ بعيد علي حقوق المواطنين وامتيازاتهم.
لذلك فان الدولة المدنية التي نتحدث عنها لا تنفي المرجعيات اسلامية اشتراكية او حتي قومية اذا كانت تلك المرجعيات لا تؤثر علي مدنية الدولة . اي قيامها علي فكرة المواطنة المتساوية او حسب التعبير النبوي العظيم ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا) او التعبير النبوي (سواسية كأسنان المشط) . تلك هي الدولة المدنية التي لا يظلم فيها أحد ولا ينتقص من حقوقه المدنية لكونه اسوداً او ابيضاً ذكرا أو أنثي، عربيا او زنجيا إلي أخر ذلك من الاوصاف الاصلية او العارضة. فيكفي انه مواطن ليكون له كامل الاستحقاق، والدولة بهذا المعني هي دولة الاحرار المتساويين الذين يقوم بذمتهم أدناهم وهم يدٍ علي من سواهم ممن عاداهم.
المشروع الوطني مشروع نهضه:-
المشروع الوطني هو مشروع يسعي للنهضة بالوطن وبأبنائه جميعاً . و هو في جوهره مشروع نهضة وتقدم وارتقاء. وأول متطلبات هذه النهضة هي استنفار الجميع في خدمة الوطن وتوحيدهم في التقدم به . فهو وطن يتحد للارتقاء بالمواطن وتحسين حياته و الارتقاء بقدراته في جميع المجالات . ومواطنون يتحدون لانماء موارد الوطن وترفيع عمرانه وازدهاره والارتقاء بقدره وتحقيق أمنه وسيادته ورفعته بين الاوطان . فوحدة المواطنين علي تنوعهم اول شروط النهضة . ولن تتحقق تلك الوحدة ما لم تصان حرية وكرامة وحقوق كل مواطن مهما كان دينه او لونه او مذهبه او جهته او نوعه او عمره. فكل مواطن رقم صحيح ليس مكسوراً ولا منقوصاً . وبهذه المعني كل مواطن امة لوحده حرية واستقلالا وسيادة . ولكنه في ذات الوقت جزءاً لا يتجزأ من امة واحدة مدركة لواقعها ساعىة لمقاصدها عازمة علي ان لا تسبقها الي أبعد اشواط الحضارة الانسانية امة سواها.
والنهضة التي نقصدها هي نهضة ثقافية فكرية روحية ايمانية اخلاقية . وهي في ذات الوقت نهضة مادية، اقتصادية ، عمرانية. هي نهضة شاملة في كل النواحي وكل الجوانب . ترتقي بالامة الي ارفع مراقى الحضارة الانسانية. ولربما ينظر اليها بعض افراد الامة او جماعاتها بمرجعية اسلامية وآخرون بمرجعية اشتراكية وآخرون بمرجعيات اخري ولكن مهما تفاوت الافكار والمرجعيات فأنها لا تتضاد بالضرورة ولا تتنافي أي لا ينفي بعضها البعض الآخر ضربة لازب. سيكون هنالك دائماً مندوحة في رؤية مشتركة لنهضة الوطن تقوم علي المشترك بين هذه الافكار جميعاً. ثم يتنافس المتنافسون من بعد علي الافكار والرؤي والبرامج. والحكم الفصل بين الجميع هو ما يختاره الشعب اجماعاً او بسواده الاعظم او غلبة الراي والاختيار فيه . فهذا هو معني (وأمرهم شوري بينهم) وهو ايضاً ما يسميه أناس بمبدأ الاغلبية أو المبدأ الديمقراطي. فالناس يتحركون معاً باتجاه المقاصد الوطنية التي يجمعون عليها فاذا اختلفوا وحدوا الرأي بالاحتكام الي المبدأ الديمقراطي. ولاشك ان بعض اهل التشدد الايدولوجي او الديني لن يقبلوا بالمبدأ الديمقراطي اذا خالف ما يعتبرونه اصلاً من اصول الفكرة . ولكن علي اهل الفكرة الاسلامية ان يدركوا ان أمة غالبيتها من المسلمين لن تجتمع علي ضلالة وان المسلمين هم الذين شهد لهم الرسول صلي الله عليه وسلم انه ( ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن)
المشروع الوطني مشروع تحرر:-
ولئن كان المشروع الوطني في جوهره مشروع نهضة فهو ايضاً مشروع تحرر مستمر. نقصد بذلك انه مشروع عزة وهمة عالية . وليس هو مشروع خضوع وخنوع . لا لشهوات النفس وغرائزها الهابطة ولا لسطوة وسيطرة الأخرين من حكام او رؤساء او وجهاء . ولا هو بمشروع استخزاء امام الأخرين امماً مستعلية مسيطرة ولا متنفذة مستكبرة. ولا يمكن ان يكون الوطن حراً ما لم يكون المواطن حراً. والحرية تبدأ بصيانة استقلال الصغير في حضن والده ووالدته واحترام اختياره وارادته . فالاسرة الأبويه المتسلطة لن تربي طفلاً قوياً عزيزاً. وما يصدق علي الأسرة يصدق علي المدرسة التي يتوجب أن تصون حرية التلميذ واستقلاله الشخصي والفردي . ولا تؤسس علي ثقافة القمع والتلقين ولا علي الغاء الاستقلال الفكري وكبح روح المخالفة المبدعة. فالشوري والديمقراطية ليست معانٍ سياسية . بل هي أخلاق تنتهض علي احترام حرية الفرد وكرامته الانسانية وعندما تنشأ الامة كلها علي اخلاق الحرية عندئذ يموت الاستبداد . وتزدهر الحرية والديمقراطية وتعلو وتسمو الكرامة الانسانية. ولا شك ان الأمة الحرة العزيزة هي حائط الصد المنيع امام تعديات الأخرين واستعلائهم واستكبارهم.
وأما خاتمة القول بشأن ذلك كله فان غاية مرام أمتنا هو أن تكون حرة معافاة في صحة ابنائها آمنة في سربها عزيزة في رهطها متطورة متقدمة علي من سواها من الأمم . راضية عن نعماء ربها شاكرة لها بالايمان والقول والعمل . وسبيل ذلك هو الاستهداء بهداية الله القائم علي كل شئ بما يصلحه وبالاستمداد من شريعته التي لا ينضب معينها ولا تفني معانيها مع كثرة الرد.