الاثنين، 25 أبريل 2011

الشريعة .. والمشروع الوطني 3 - 3


        تحدثنا في المقالات السابقة عن علاقة الشريعة بالسياسة و بالمشروع الحضاري الاسلامي . واوضحنا أن مقصد الشريعة هو الاستمداد من الهدي الالهي لتحسين الحياة والارتقاء بانسانية الانسان. كما اوضحنا ان المشروع الحضاري الاسلامي الذي تبشر به الحركات الاسلامية هو احياء الاسلام وتجديده ليقود الحياة الي الرقي المادي والثقافي والروحي والاخلاقي. واذا كان المشروع الحضاري الاسلامي هو رؤية الحركات الاسلامية النهضوية للترقي والتقدم فإن المشروع الوطني السوداني هو المشروع الذي يتوجب أن يتوافق عليه جميع السودانين المسلم منهم وغير المسلم، المحافظ والمتحرر ذو التوجهات اليمينية وذو التوجهات اليسارية فمهما اختلفت الايدولوجيات والرؤي فان الالتزام الوطني الحق يوجب التوافق علي حدٍ أدني من الاتفاق علي رؤية شاملة للنهوض بالوطن المشترك الذي يسع الجميع ويتساوي فيه الجميع.
ملامح المشروع الوطني السوداني:-
أهم ملامح المشروع الوطني السوداني ان مركزه هى فكرة الوطن نفسها. فالوطن هو الذي يدور حوله الجميع ويدندنون اهازيج الحب والولاء له. وليس هنالك متعايش في هذا الوطن أحق به من سواه علي اختلاف الملل والنحل والالوان والاعراق. والانتماء للوطن الذي هو المواطنة هو معيار الحقوق والواجبات. لذلك فان دولة الوطن هي الدولة المدنية التي يصنع صورتها المواطنون باجماعهم او بسوادهم الاعظم او غالبيتهم وهي مدنية لأن معني المدنية هو المعني الذى يتصل بمعني الحضارة حتي يكاد يتماهي معها.  هو الانتماء الي مجتمع حضري يسعي نحو التقدم والارتقاء. والكلمة الانجليزية Civilization  تعرب الي حضارة والي مدينة ومفردة civic  التى تعرب (مدني) ومنها المجتمع المدني Civil Society  والحقوق المدنية Civil Rights   كلمة تشير الي هذه النسبة اللصيقة بين ما هو مدني وما هو حضري. والمجتمع المدني هو المجتمع الذي ينتظم  بأرادة افراده انفسهم دون حاجة الي قهر من سلطان الدولة . والحقوق المدنية هي تلك الحقوق التي يكتسبها الفرد بمجرد الوجود في ذلك المجتمع. وقد يحلو للبعض ان يجعل كلمة دولة مدنية مقابلة لكلمة عسكرية وليس هنالك دولة عسكرية ولكن هنالك حكم عسكري لدولة قد تكون دولة دينية او طائفية او طبقية او غيرها . والمعول علي وصف الدولة في هذه الحالة هي العلاقات التي تقوم بين الافراد والمؤسسات وكيفية تحديد الواجبات واكتساب الحقوق. فاذا كانت العلاقات تتحدد علي اساس الانتماء الدينى والواجبات والحقوق تأسس علي الملة فتلك دولة دينية . واذا كان ذلك علي اساس المذهب والنحلة فتلك دولة طائفية , واذا كانت تتأسس علي اساس طبقي يفرق في الحقوق والواجبات بين من يملك ومن لا يملك فهى دولة طبقية او هي رأسمالية او براجوزية ان شئت استخدام المصطلح الماركسى. ولا تكون الدولة مدنية إلا اذا كانت العلاقات فيها تؤسس علي اساس المواطنة المتساوية والحقوق تكتسب علي اساس المواطنة لا تفرق بين المواطنين حسب لون او عرق او نوع او جهة.  فالدولة التي تنسب للمدنية هي دولة لأناس متحضرون يسعون للرقي والتقدم . ويحققون ذلك باتحادهم علي رؤية مشتركة لمفهوم لهذا الارتقاء والتقدم مع ما هم عليه من تنوع في الاديان والمذاهب والجهات والطبقات والاعراف والثقافات. وقد يلاحظ بعض القراء أن اصحاب الاتجاه العلماني الذي يفصل الدين عن الحياة العامة وعن السياسة بوجهٍ أخص اصبحوا يميلون الي استخدام دولة مدنية وكأنه المرادف لدولة علمانية . وليس هذا بصحيح فالعلامة المائزة للدولة المدنية هي تفرعها عن فكرة المساواة في الانتماء للوطن اي فكرة المواطنه . أما فكرة فصل الدين عن الدولة فهي مثل ان تكون اسرائيل دولة علمانية ولكنها ليست دولة مدنية . لأنها تفرق بين مواطنيها علي اساس عرقي وعلي اساس ديني بل علي اساس جهوي حتي بين اليهود انفسهم غربين وشرقين.  وعلي اساس عرقي حتي بين اليهود انفسهم بين اليهود البيض واليهود السود الفلاشا. وكم من دولة في ما نري من الدول علمانية التوجه وطائفية الفكرة تفرق بين حقوق المواطنين لاختلاف نحلهم ومذاهبهم ولعل الانموذج الطائفي الذي أعلن الشباب اللبناني عليه الثورة صورة أخري لدولة علمانية تؤثر الطائفية فيها الي مديٍ بعيد علي حقوق المواطنين وامتيازاتهم.
لذلك فان الدولة المدنية التي نتحدث عنها  لا تنفي المرجعيات اسلامية اشتراكية او حتي قومية اذا كانت تلك المرجعيات لا تؤثر علي مدنية الدولة . اي قيامها علي فكرة المواطنة المتساوية او حسب التعبير النبوي العظيم ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا) او التعبير النبوي (سواسية كأسنان المشط) . تلك هي الدولة المدنية التي لا يظلم فيها أحد ولا ينتقص من حقوقه المدنية لكونه اسوداً او ابيضاً ذكرا أو أنثي، عربيا او زنجيا إلي أخر ذلك من الاوصاف الاصلية او العارضة.  فيكفي انه مواطن ليكون له كامل الاستحقاق، والدولة بهذا المعني هي دولة الاحرار المتساويين الذين يقوم بذمتهم أدناهم وهم يدٍ علي من سواهم ممن عاداهم.

المشروع الوطني مشروع نهضه:-
المشروع الوطني هو مشروع يسعي للنهضة بالوطن وبأبنائه جميعاً . و هو في جوهره مشروع نهضة وتقدم وارتقاء. وأول متطلبات هذه النهضة هي استنفار الجميع في خدمة الوطن وتوحيدهم في التقدم به . فهو وطن يتحد للارتقاء بالمواطن وتحسين حياته و الارتقاء بقدراته في جميع المجالات . ومواطنون يتحدون لانماء موارد الوطن وترفيع عمرانه وازدهاره والارتقاء بقدره وتحقيق أمنه وسيادته ورفعته بين الاوطان . فوحدة المواطنين علي تنوعهم اول شروط النهضة . ولن تتحقق تلك الوحدة ما لم تصان حرية وكرامة وحقوق كل مواطن مهما كان دينه او لونه او مذهبه او جهته او نوعه او عمره. فكل مواطن رقم صحيح ليس مكسوراً ولا منقوصاً . وبهذه المعني كل مواطن امة لوحده حرية واستقلالا وسيادة . ولكنه في ذات الوقت جزءاً لا يتجزأ من امة واحدة مدركة لواقعها ساعىة لمقاصدها عازمة علي ان لا تسبقها الي أبعد اشواط الحضارة الانسانية امة سواها.
والنهضة التي نقصدها هي نهضة ثقافية فكرية روحية ايمانية اخلاقية . وهي في ذات الوقت نهضة مادية، اقتصادية ، عمرانية. هي نهضة شاملة في كل النواحي وكل الجوانب . ترتقي بالامة الي ارفع مراقى الحضارة الانسانية.  ولربما ينظر اليها بعض افراد الامة او جماعاتها بمرجعية اسلامية وآخرون بمرجعية اشتراكية وآخرون بمرجعيات اخري ولكن مهما تفاوت الافكار والمرجعيات فأنها لا تتضاد بالضرورة ولا تتنافي أي لا ينفي بعضها البعض الآخر ضربة لازب. سيكون هنالك دائماً مندوحة في رؤية مشتركة لنهضة الوطن تقوم علي المشترك بين هذه الافكار جميعاً.  ثم يتنافس المتنافسون من بعد علي الافكار والرؤي والبرامج.  والحكم الفصل بين الجميع هو ما يختاره الشعب اجماعاً او بسواده الاعظم او غلبة الراي والاختيار فيه . فهذا هو معني (وأمرهم شوري بينهم) وهو ايضاً ما يسميه أناس بمبدأ الاغلبية أو المبدأ الديمقراطي. فالناس يتحركون معاً باتجاه المقاصد الوطنية التي يجمعون عليها فاذا اختلفوا وحدوا الرأي بالاحتكام الي المبدأ الديمقراطي. ولاشك ان بعض اهل التشدد الايدولوجي او الديني لن يقبلوا بالمبدأ الديمقراطي اذا خالف ما يعتبرونه اصلاً من اصول الفكرة . ولكن علي اهل الفكرة الاسلامية ان يدركوا ان أمة غالبيتها من المسلمين لن تجتمع علي ضلالة وان المسلمين هم الذين شهد لهم الرسول صلي الله عليه وسلم انه ( ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن)
المشروع الوطني مشروع تحرر:-
          ولئن كان المشروع الوطني في جوهره مشروع نهضة فهو ايضاً مشروع تحرر مستمر. نقصد بذلك انه مشروع عزة وهمة عالية . وليس هو مشروع خضوع وخنوع . لا لشهوات النفس وغرائزها الهابطة ولا لسطوة وسيطرة الأخرين من حكام او رؤساء او وجهاء . ولا هو بمشروع استخزاء امام الأخرين امماً مستعلية مسيطرة ولا متنفذة مستكبرة. ولا يمكن ان يكون الوطن حراً ما لم يكون المواطن حراً. والحرية تبدأ بصيانة استقلال الصغير في حضن والده ووالدته واحترام اختياره وارادته . فالاسرة الأبويه المتسلطة لن تربي طفلاً قوياً عزيزاً. وما يصدق علي الأسرة يصدق علي المدرسة التي يتوجب أن تصون حرية التلميذ واستقلاله الشخصي والفردي . ولا تؤسس علي ثقافة القمع والتلقين ولا علي الغاء الاستقلال الفكري وكبح روح المخالفة المبدعة. فالشوري والديمقراطية ليست معانٍ سياسية . بل هي أخلاق تنتهض علي احترام حرية الفرد وكرامته الانسانية وعندما تنشأ الامة كلها علي اخلاق الحرية عندئذ يموت الاستبداد . وتزدهر الحرية والديمقراطية وتعلو وتسمو الكرامة الانسانية. ولا شك ان الأمة الحرة العزيزة هي حائط الصد المنيع امام تعديات الأخرين واستعلائهم واستكبارهم.
          وأما خاتمة القول بشأن ذلك كله فان غاية مرام أمتنا هو أن تكون حرة معافاة في صحة ابنائها آمنة في سربها عزيزة في رهطها متطورة متقدمة علي من سواها من الأمم . راضية عن نعماء ربها شاكرة لها بالايمان والقول والعمل . وسبيل ذلك هو الاستهداء بهداية الله القائم علي كل شئ بما يصلحه وبالاستمداد من شريعته التي لا ينضب معينها ولا تفني معانيها مع كثرة الرد.

أنتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

الاثنين، 18 أبريل 2011

الشريعة .. والمشروع الوطني 2 - 3


       أشرنا في المقال السابق الي المقصود بمفردة الشريعة وأتصال الشريعة بالسياسة. ولئن كانت السياسة في مقصودها الاسلامي هي الرعاية والتربية والتدبير وتحصيل المصالح ودرء المفاسد فإن الشريعة هي الاستمداد المستمر من الهدي الالهي لتحقيق عمران الأرض وتحسين الحياة وتربية النفوس علي اصول العدل والانصاف والاحسان.
الشريعة والمشروع الحضاري:-
        وتحسين الحياة الذي هو مطلوب الشريعة الأول هو ثمرة الحضارة. فالتحضر هو القدرة المستمرة علي الارتقاء المادي والثقافي والروحي. والحضارة يعرفها البعض بانها (كل جهد يقوم به الانسان لتحسين ظروف حياته) والمفردة في اللغة العربية مشتقة من الفعل حضر. والحضور  هو أظهار الوجود بحيث يكون مشهوداً من الاخرين. ولذلك فأن الحضور يتفاوت بين شخص وآخر . لأن الحضور له صلة وثيقة بما يتركه الفرد من أثر علي الآخرين بحيث يكون مشهوداً يشد اليه الانظار ويجذب إليه الابصار. ولعله لهذا السبب فرقت العرب في لغتها بين الحضر والبدو فالحضارة عامرة بالمشاهد والحركة الدائبة . واما البداوة فتتسم بالبساطة والرتابة والسكون. وقد ارتبطت كلمة حضارة المثيرة للجدل دائماً بمفهوم التفوق الانساني والترقي والرفعة. ولذلك فقد دأب بعض المنسوبين لحضارات معينه على النظر لاصحاب الحضارات الاخري بوصفهم أقل رقياً بل وهمجين وبرابرة. بيد أن الترقي مسألة نسبية وبخاصة في جوانبه الثقافية والفنية والروحية والاخلاقية. فالترقي المادي يسهل قياسه.  ولكن الحضارة غير المادية لا معيار لها الا الفطرة الانسانية السوية والعقل الرصين والدين القويم. واذا كانت الحضارة هي الخاصية التي تسم اسلوب أمة وطريقتها في الترقي العمراني والثقافي والروحي والاخلاقي فان معني التحضر يقترب كثيراً من معني الشريعة الذي هو استمداد فكري وروحي لتحقيق الترقي الانساني. وبهذا المعني فاذا كان مفهوم التحضر مفهوماً تقدمياً فأن مقصد الشريعة الأوحد هو الترقي بالحياة والتقدم بها الي افاقٍ ارحب .
المشروع الحضاري الاسلامي:-
        وعبارة المشروع الاسلامي الحضاري ترددت كثيراً لدي الحركات الاسلامية . ومرجع ذلك أن المسعي الرئيس للحركات الاسلامية المعاصرة هو احياء الاسلام وتجديده ليقود الحياة الي الرقي المادي والثقافي والروحي والاخلاقي. كما أن وقوع البلاد الاسلامية تحت هيمنة الدول الغربية التي سعت بقوة إلي فرض انموذجها الحضاري المادي والاخلاقي علي مستعمراتها سبب آخر من اسباب المجانبة للحضارة الغربية.  وطرح المشروع الحضاري الاسلامي جاء بديلاً لحالة الاستسلام للهيمنة الاستعمارية الحضارية الغربية. ولكن الاسلاميين من لدن الافغاني الي يومنا هذا ادركوا أن المعرفة بالاسلام التي ورثوها عن عصر الانحطاط لا يمكن لها ان تكون نداً في المواجهة مع الهيمنة الحضارية الغربية . ولذلك فإن اول مطلوبات احياء الانموذج الحضاري الاسلامي هو تجديد الفكر لتتجدد الحياة به. وتجديد الفكر من لدن الافغاني ومحمد عبده والسنهوري كان يعني تجديد الفهم للشريعة الاسلامية. والسنهوري في كتاب الخلافة الذي نشره في العام 1922 تحدث عن التجديد الحضاري . فيقول ان النهضة الحضارية في العالم الاسلامي تستوجب النهضة بالشريعة الاسلامية . وجعلها مطابقة لروح العصر وتطوير اللغة العربية بوصفها وسيلة التواصل بين شعوب الامة . كما يتحدث عن احياء العلوم والمعارف.  وتطوير الاقتصاد واحياء الرابطة بين الشعوب الاسلامية. وما أوما اليه السنهوري منذ ما يقارب القرن من الزمان لا يزال هو الامر المطلوب لانجاز المشروع الحضاري الاسلامي.  فلا يزال المشروع الاسلامي هو مشروع تحرر وتطور واتحاد. ونقصد بالتحرر هو الاستقلال عن كل هيمنة سوي الارادة الذاتية للفرد والأمة . فلا يجب ان تخضع الامة لارادة خارجية مستعلية لكي تحصل علي منفعه زائلة او متعة عابرة . وكذلك الانسان الفرد يتوجب أن يستعلي بارادته عن الخضوع لغرائزه او الاستخزاء لسواه لرغبة جامحة او حاجة عاجلة . ذلك ان كل ارتقاء هو ثمرة الجهد والكد والكدح.  فما  يفلح المرء يكون كلا علي سواه  ولا تفلح الأمة تكون خاضعة وتابعة لغيرها من الامم.
والمشروع الحضاري الاسلامي هو مشروع تجديد وابتكار وتطور . وهو بهذا المعني مشروع انماء فكري وانساني . فمثلما ان المرء لا يعد عالما اذا اكتفي بالحفظ عن معلمه وبتقليده دونما مساءلة او تفكر او تأمل او انشاء جديد فأن الامة لن تكون متحضرة متطورة متقدمة اذا اكتفت برصيدها الحضاري الذي سوف يتآكله الزمن ويبليه . فلا تكون حضارة الامس إلا اثراً بعد عين. فلئن كانت الاجيال الماضية جعلت حضورها محسوساً في التاريخ بما تركت من اثار نهضة العلوم والفنون والعمارة فان اجيال اليوم لابد لها من الاستفادة من ذلك التراث ومن علوم الحاضر وتجاربه للارتقاء الي مراتب رفيعة تحقق لها الظهور بين الامم. والمشروع الاسلامي اذا ليس مشروعا لتطبيق شريعة موروثة بل هو مشروع الاستمداد من ذات مصادر تلك الشريعة لاحياء معانيها في النفوس وملائمة هداياتها للازمان والاحوال. ولذلك فأن العبارة الدقيقة ليست هي تطبيق الشريعة وكانها تطبيق جاهز Application   بل العبارة الصحيحة هي تحكيم الشريعة.  لأن مفهوم الشريعة سيتفاوت حكماً بالنظر للحال والمآل.
الشريعة ... تحديد المفهوم:-
        أصبح المعني الدارج للشريعة وكأنها مجموعة من الاحكام القانونية التي تتصل برد الجانحين الي جادة الصواب. واصبح معناها السائد مقارباً لمعني الالتزام بالحد الادني من الاسلام . اي مجرد عدم الخروج علي احكام الاسلام وآدابه وهذا ظلم فادح للشريعة فالشريعة هي المنهاج الواضح الذي يشرع بالمرء الي تحقيق الحق من كل شئ وفي كل شئ . وهي كما يقول الزمخشري :هي الطريقة المتنزلة في زمن مخصوص لتحقيق مقاصد الدين والدنيا ولئن كانت الشريعة في زمن الرسول صلي الله عليه وسلم متنزلة علي احوال الناس في ذلك الزمان . مفسرة بقدوة الرسول الحسنة وأسوته المباركة الطيبة فان الشريعة في زماننا يتوجب ان تكون استمداداً من ذات المصادر ونهلاً من ذات المشارب وتنزيلاً علي احوال الناس في هذا الزمان . لذلك اصبح معناها متصلاً بمعني الاستمداد والتخريج بالنظر الي مقاصد الدين ومصالح الناس .  فالشريعة التي تخطئ فهم مقاصد الدين ومرادات الاحكام ليست هي الشريعة المعنية المقصودة .  والشريعة التي لا تحقق مصالح الناس وتجلب المنافع إليهم وتدرأ المفاسد والشرور عنهم ليست هي الشريعة المطلوبة المقصودة.
أنسنة الشريعة:-
        بعض الفهوم جعلت الشريعة مطلوباً لنفسها . وهذا فهم مغلوط طائش عن الحق . وانما انزلت الشريعة لتحسين حياة الانسان فرداً وجماعة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فكل فقيه لا يكون التيسير والتسهيل والرحمة والرفق منهاجه في الأخذ عن الشريعة ليس بعالم ولا فقيه . ولا هو جدير بأن يسمع له قول او ترفع له رتبه. لان مراد الله الأوحد من التشريع هو الرحمة والرأفة والرفق بالناس . ورفع العنت والحرج والإصر عنهم. ولكننا في هذا الزمان لا نكاد نسمع من فقهائنا إلا التصعيب والتثريب.  وكأنهم ما علموا ان مبتدأ الفتوي هو النظر الي الاحوال قبل فرض التكاليف . ثم أن الحرج مرفوع في كل حال والرفق مطلوب في شتئ الاحوال. وان الانسان وما تصير اليه حاله بعد التكليف هو أجدر الامور بالاعتبار.  وعلي ذلك معول كل فقه القياس والمصالح والذرائع. أن أبعد أنواع الفقه نجعة من الشريعة هو ذلك الفقه المتباعد من التعاطف مع الانسان المتجرد من الرحمة والرأفة . ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم والذي أرسل رحمة للعالمين هو الذي وصفه الله تعالي بقوله (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين روؤف رحيم) فمن أحب ان يكون من العلماء الذين هم ورثة الرسول صلي الله عليه وسلم فيجب أن يعز عليه كل عنت و يأبى كل مشقة تصيب المؤمنين.  وان يتحلي إذ ينطق بأية فتوى أو يفه بأى حكم بالرحمة والرأفة فذلك كان دأب الرسول صلي الله عليه وسلم وذلك هديه وتلك طريقته المثلى.





نواصـــل،،،

السبت، 16 أبريل 2011

حراس البوابة والخطاب الإعلامي



حراس البوابة والخطاب الإعلامي



الإعلام كلمة فضفاضة حمِالة لأوجه معاني متنوعة ومرجع ذلك أن التعريف اللفظي للمفردة يتسع ليشمل منطقة تداعي واسعة للمعاني. كذلك فإن التعريف الإجرائي للكلمة يدخل في نطاقها عدداً كبيراً من الفاعلين والأفعال التي تقع ضمن نطاق التعريف .مسألة إضافية هي إشكالية التعريب فنقل المفردة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية يخلق هو الآخر إشكالاتٍ جديدة. ولا شك أننا سنخوض في بحر من الإبهام لو مضينا إلى تعريف لفظة خطاب إعلامي دون تعريف دقيق لما نقصد به بمفردة إعلام وما نقصد به بمفردة خطاب. مفردة أعلم في اللغة العربية تعني نقل علماً أو أحاط آخرين علماً بخبر أو معلومة . فنقل اعلم إعلاما ومع إرادة معنى الاستمرارية يكون تعليماً . ونقل العلم بالشيء يشمل الأخبار كما يشمل نقل المعلومات والإفادة بالخبرات. ولذلك فكلمة إعلام تشمل نقل المعلومات والإفادات بالخبرات والتجارب كما تعنى نقل بالأخبار.
وأما كلمة خطاب فتعني توجيه الكلام لشخص أو أشخاص أو جهة ما. والقصد إفادة علم معين أو خبر محدد أو إيصال معنى مراد إلى نفس المخاطب أو المخاطبين. ولا يكون الخطاب إلا متصلاً بقصد المخاطب إلى إيصال علم أو معنى أو خبر للمخاطب بالكلام . فإذا خلا الكلام من معنى مقصود فلا يكون كلاماً بل هذراً وثرثرة. والهذر والثرثرة حالة نفسية ربما تجدي في التنفيس عن احتقان ولكنها لا تدخل بحال في ضروب الاتصال. وبوضع المفردتين متجاورتين يتأتى معنى جديد. فمفردة الإعلام تعني نقل العلم والمعلومات والأخبار . ومفردة خطاب تعني توجيه هذا العلم والمعلومات والأخبار توجيهاً قاصداً لإحداث التأثير المطلوب في نفوس المخاطبين . وأما التأثير المطلوب في نفوس المخاطبين فهو إقناعهم بتبني نفس الرؤى والقناعات والأفكار التي يحملها مرسل الرسالة أو موجه الخطاب . وإستمالة مشاعرهم وعواطفهم لذات الاتجاه المطلوب . ولا يتوقف الأثر المطلوب عند هذا الحد بل يتعداه إلى طلب مساندة أو مشاركة أو انخراط في أفعال لتحقيق مطلوب المخاطب أو مرسل الرسالة . وهكذا فإن الخطاب الإعلامي يعنى أولاً: بتوصيل معلومة أو خبر To inform ثانياً: إحداث أثر نفسي في نفس المخاطب يجعله أقرب للتوصل إلى المعاني المُرادة والإقناع بوجهة نظر المخاطب To persuade. وأن يكون الأثر من الشدة بحيث يولد طاقة حركية لمساندة ومناصرة عملية للاتجاه المطلوب To actuate. فكل خطاب إعلامي مراده الأول طلب قناعة ومسايرة المخاطبين لمرسل الرسالة . ولكن لا يوجد خطاب إعلامي البتة يحقق المطابقة الكاملة بين رؤية المُخاطِب والمُخَاطب ولا يؤدي إلى استثارة ذات الطاقات المؤيدة المساندة المرجوة تماماً عند مرسل الرسالة . بل أن الأمر يتفاوت بتفاوت الأشخاص المقصودين بالرسالة ويتعلق بمدى إحاطة المخاطب "صاحب الرسالة" بأحوال المخاطبين وأوضاعهم النفسية والمزاجية ومستوياتهم الإدراكية والفكرية.
كيف يُصاغ الخطاب الإعلامي؟
لكي يحقق صاحب الرسالة أعلى نسبة من توقعاته في إقناع مخاطبيه وفي استمالة مشاعرهم وعواطفهم والفوز بمناصرتهم ومساندتهم , لا بد له من مراعاة العديد من الاعتبارات عند صياغة الرسالة الإعلامية. ومما لا شك فيه أن صياغة الرسالة الإعلامية تتفاوت بدرجة كبيرة بين الإعلام الشخصي والإعلام اللاشخصي. كما تتفاوت بين وسيلة ووسيلة . فصياغة رسالة إعلامية عبر دورية أو مجلة ليست مثل صياغتها لصحيفة يومية . وإعداد رسالة للراديو يختلف عن إعداد رسالة للتلفزيون . وإعداد رسالة عبر الكيبل أو الشبكة الإلكترونية له خصوصيته هو الآخر. ولذلك فإن الأسس التي بموجبها يصوغ شخص ما رسالته ربما تتشابه ولكنها تتبدى بأشكال متفاوتة عند تغاير الوسائل. كذلك فإن عدد المتداخلين في توصيل الرسالة يؤثر تأثيراً كبيراً في صياغة الرسالة الإعلامية .ويؤثر في مؤداها على حدٍ سواء. ولا نريد أن نتوقف عند الإعلام الشخصي الموجه من شخص أو أشخاص معلومين مباشرة أو غير مباشرة . فهذا ليس موضع الاهتمام في هذه الورقة ولكن بؤرة التركيز هو الإعلام الجماهيري والخطاب الإعلامي الموجه للجماهير عبر الوسائط. وهو بصفته هذه إعلام لا شخصي . أي أن المخاطبين ليسوا معلومين تحديداً للمخاطب لهم . وكذلك هو إعلام تتدخل فيه الوسائط فهو إعلام غير مباشر. فهو إذاً خطاب إعلاي عبر وسائط الاتصال الجماهيري. والإعلام الجماهيري بهذه الصفة له إيجابياته وله سلبياته. وأهم سلبيات الإعلام اللاشخصي وغير المباشر أنه يختصر أقنية التحسس التي يمكن للمخاطب "المرسل إليه الرسالة" إن يستخدمها في استيعاب الرسالة. فعندما تكون في المسجد تستمع استماعاً مباشراً لخطيب الجمعة فإن حواسك جميعاً تشترك في عملية الإدراك والاستيعاب. فأنت تراه وتسمع له وتؤثر انفعالاته المباشرة على انفعالاتك ويلقى حضوره المباشر بأثره سلباً وإيجاباً عليك. ولكن الاتصال الجماهيري قد لا يسمح لك برؤية الخطيب طوال الوقت. فأنت في رحمة حراس البوابة من منتج ومخرج ومصور فهم يقررون متى يركزون على الخطيب ومتى على الجمهور. ومتى تكون الصورة في زاوية أو زاوية أخرى قريبة أم بعيدة. فهكذا حراس البوابة المتدخلون بما ترى متى تراه وكيف تراه يفقدون المشهد حميميته ويبدلون واقعيته بواقع مفترض جديد. يعيدون بناءه حسب تصميم مسبق عند المنتج والمخرج والمصور والمنفذ.
مفهوم حراس البوابة:
هؤلاء هم الأشخاص المساهمون في نقل الرسالة الإعلامية. أطلق عليهم عالم السيكولوجيا النمسوي الأصل كوت لوين اسم حراس البوابة. ويقصد بهم الأفراد أو المجموعات التي تتحكم برحلة الخطاب الإعلامي في قنوات الاتصال. فلم يعد الخطاب الإعلامي عبارات تتدفق من لسان المخاطب إلى أذن المخاطب بل أن غالب الخطاب الإعلامي يتم عبر قنوات الاتصال المتعددة. والتي أضحت تدار بواسطة فريق مرتب مسبقاً يتناصر على صياغة الخطاب الإعلامي وتوصيله إلى وجهته المرادة عبرة القناة الاتصالية المحددة. فالمنتج التلفزيوني الذي يقطع مشهداً هو أحد هؤلاء والمخرج الذي يضيف مشهداً أو يحذفه أو يحدد زاوية الالتقاط أو الإضاءة أو الصوت المصاحب يضع بصمته على الرسالة الإعلامية. ومراقب البرامج الذي يحذف أو يضيف أو يحدد توقيتاً للبث يضع بصمته هو الآخر على الرسالة الإعلامية. وكل هؤلاء يؤثرون باختياراتهم وأفعالهم على فحوى الرسالة وصورتها وتوقيتها. وبالتالي على أثرها على المستمع  أو المشاهد. فحراس البوابة إذاً واقعٌ لا فكاك منه هو جزء من طبيعة أداء وسائط الاتصال المعاصرة. وأهم أدوار هؤلاء أنهم هم من يحددون الأجندة أي العنوانين التي يجب أن يشتغل بها الناس. وقد يحقرون نبأ عظيماً بتجاهله  ويعظمون حقيراً من الأخبار بتضخيمه وترداده. فأهم أدوارهم هو تحديد الأجندة وتركيز انتباه الناس على أحداث وأخبار ومشاهد. وربما تشتيت أنظارهم وانتباههم  عن ما يجب  أن يكون موضع الاهتمام والتركيز. بنقل الأنظار  والأسماع إلى  بؤر إهتمام جديدة . وهم يفعلون ذلك  بتحجيم المعلومات أو الأخبار  أو تجاهلها. أو توسيع كمية المعلومات والأخبار وتضخيمها وتكرارها أو إعادة ترتيب المعلومات أو الأخبار  بما يعطي إنطباعاً مُحدداً. أو يحدث تأثيراً  معيناً. أو بتفسير الأخبار والمعلومات بنسبتها إلى أخبار أُخري ومعلومات أُخري أو مُقارنتها لتأكيدها أو التشكيك بها  . وهكذا  تتعاظم سلطة هؤلاء علي أسماعنا وأبصارنا وبالتالي علي مشاعرنا وعقولنا. ثم علي اختياراتنا وأحكامنا و أولوياتنا . وهذه السلطة الكبرى للإعلاميين  والتي لا يتبدى فيها بهرج السلطة ولا خيلاؤها لكنها تمسك بمقاليد إتجاهات  وإرادات الرجال والنساء  لتقودهم حيث تشاء. وهي تنجح في ذلك أو تخفق إعتماداً علي الحذق والمهارة التي  يحوزها حارسو البوابة في صياغة خطابهم  وفي توجيهه وتصويبه وتوقيته.
مرجعية الخطاب الإعلامي:
        إن كنا قد قررنا  أن الخطاب الإعلامي هو كلام يُرمي به  إلى تحقيق غاية ما. فلابد أن المُحرك الرئيس لهذه الرسائل الإعلامية يتحرك من تلقاء دوافع  وأفكار ومقاصد . ولابد من التوقف عند هذه الدوافع والأفكار والمقاصد. والدوافع ربما تكون فكرية "أيدولوحية" أو سياسية لتحقيق التمكن من السلطان أو النفوذ. أو إقتصادية لتحقيق النفع أو الربح. أو قد تكون حزمة  من كل هذه الدوافع. ولا شك أن طبيعة وسائط الإتصال الجماهيري والتي هي عالية التكلفة  في تجهيزاتها وفي رواتب  وإستحقاقات وإمتيازات العاملين بها، تعطي السلطة الأكبر في تحديد مقاصد المؤسسة الإعلامية للمتصرفين بشأنها من مالكين أو مُفوضين من هؤلاء  المالكين. فهؤلاء هم الذين  يسوقون المؤسسة لتحقيق مآربها  سواء كانت فكرية أو سياسية أو إقتصادية. ولكن هؤلاء لا يتحكمون بالمطلق في سيرورة  الأداء الإعلامي لأنهم لا يملكون القدرة على المتابعة المُستمرة اللصيقة  للأداء الإعلامي ولا القدرة علي إجبار حراس البوابة علي التصرف علي النحو المُراد تماماً  , فحراس البوابة أي منتجو الرسالة الإعلامية شركاء في السلطان الإعلامي. وقد تتسع حصتهم في هذه الشراكة حتى تغلب  علي سلطة المالكين. وقد تضيق إلى مدي بعيد ولكنها لا تتناهي تماماً. فتنميط المسلكية  البشرية هو رابع المستحيلات بعد الغول والــعنقاء والخل الوفي إن كانت المذكورات آنفاً من المستحيلات. ولكن إذا كان مطلوب المُلاك والمتصرفين هو إنتاج خطاب إعلامي  تراد به مقاصد مطلوبة فكيف يؤثرون علي حراس البوابة للمحافظة علي فحوي وصورة الخطاب المطلوب، ليحدث الأثر المطلوب . لابد لكي يتحقق قدر من ذلك من وضوح مرجعية  الخطاب.  ونقصد بمرجعية الخطاب الأفكار الرئيسة  التي توجه مضمونه الفكري والإمتثالات  الأخلاقية  التي يتوجب أن يتحلى بها. والرؤى السياسية والإقتصادية والإجتماعية  التي يُفسر بها الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. والتي تتأثر الي مدي بعيد بالقناعات الفكرية أو الإلتزامات الأخلاقية. ولكي تكون الصورة واضحة فإن مؤسسة إعلامية تنشأ في بلد إشتراكي  يؤمن بالإشتراكية العلمية وبالقراءة  الماركسية اللينينيه لواقع بلد ما  لابد أن يكون خطابها الإعلامي مصطبغاً بالفكر الإشتراكي وبأخلاقية التعاطف مع المعدمين والفقراء.  وبرؤية محددة للتطور الإقتصادي والإجتماعي. وبتفسير للأخبار والأحداث يُصدَق القراءة المادية التاريخية لسيرورة الأحداث في العالم. بالمقابل فأن مؤسسة تنشأ في بلد إسلامي يؤمن الحكام والمتنفذون فيه بأهمية  الإستهداء  بالوحي في رؤية الكون والحياة والعالم، وإن الإنسان لا يقوم إعتماداً علي عقله وتجاربه  فقط، وأن ما شرعه الله هو الأوفق والأحسن للناس، و  هو السبيل إلى الحياة  الطيبة السعيدة، فهؤلاء  لهم تفسيرهم للسياسة  وللإقتصاد والاجتماع وما ينبغي أن تستهدي السياسة والإقتصاد والاجتماع وهم يضعون أُسساً للشرعية السياسية لا تتطابق مع أُسس الشرعية لدولة تنشأ في بلد يفصل بين هداية الدين وواقع الحياة. وهم يفسرون المنفعة تفسيراً مُغايراً للتفسير المادي للمنفعة. .وهكذا فأن حزمة من الأفكار  والإمتثالات الأخلاقية والرؤى السياسية  تُشكل  مشرباً تُستقي منه  الأفكارالتفصيلية وتفسر به الأحداث والأنباء والأخبار.  ولأغراض التوضيح والتمثيل فإن طائفة  كاملة من الأخبار  سوف لن تجد طريقها للوسيط الإعلامي في مؤسسة إعلاميه في دولة  اشتراكيه لأن حراس البوابة يرون فيها  ترويجاً لعادات استهلاكية رأسماليه ـ مثلما حاول البعض منع استيراد التفاح في بلادنا يوماً بدعوى أنه سلعة استفزازية ـ اذاً فهنالك معطيات يغطى عليها لأنها  غير مرغوبة . ولكن إضراب العاملين وهو حدث يومي في بريطانيا لا يثير اهتماماً في ذلك البلد قد يكون موضوعاً للأخبار الرئيسة في تلفزيون بولندا في يوم ما إبان الحكم الاشتراكي . وأما في ظل رؤية إسلامية فإن البعض قد يتحفظ على بث ألعاب المصارعة . كما حدث يوماً في تلفزيون السودان . بدعوى إنها مشاهد غير محتشمة أو ربما شديدة العنف تمثلاً بتفسير ما لقيم الاحتشام أو لقيم تفادى القسوة غير الضرورية . وغالباً ما يعبر عن هذه الرؤى بما يسمى بسياسة المحطة أو سياسة التحرير. وهى قد تصاغ في أدلة متوفرة للعاملين جميعاً أو في شكل مدونه للأداء الإعلامي تستند على تسليم باتجاهات فكريه محددة والتزامات اخلاقية ومعايير للمقبول والمتحفظ عليه . وهذه المدونات تشكل مرجعيه عامة ولكنها لا تسد باب التصرف أمام الإعلامي لأنه لا شئ قاتل للإبداع ومهييء للفشل والإخفاق مثل مصادرة حرية حراس البوابة في التصرف.

الأسس المهنية للخطاب الإعلامي:
حرية التصرف لحراس البوابة تساوي في معادلة تامة حرية الإبداع. ولذلك إذ ذهب المخططون للخطاب الإعلامي إلى محاولة تفصيل الخطاب الذي يرغبون به فإنهم يكتبون حكماً بالفشل والإخفاق قبل بدء الرحلة. فحرية العمل الإعلامي ليست مطلوبة تحيزاً لحراس بوابة الإعلام بل هي مطلوبة لكل عمل إبداعي. وإذا أريد للرسالة أن تكون جاذبة ومؤثرة فلابد من إتاحة حرية واسعة للإعلاميين في ظل مرجعية معلومة وسياسة عامة متفق عليها. وتعاقد بين الجميع على امتثال صارم للأسس المهنية ولأخلاقيات الأداء الإعلامي. وما من مهنة معروفة تتداخل فيها فنيات العمل مع أخلاقياته مثل المهنة الإعلامية. وهي تتفوق على مهنة الطب في ذلك. ولئن كان الأطباء في الدنيا قد تعاقدوا وتعاهدوا على قسم أبقراط، فلابد للإعلاميين في الدنيا من قسم يتعاهدون عليه. والأسس الكلية لمهنة الإعلام هي الحكم بالقسطاس"وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى" أي لا يمنعك الانحياز العاطفي من رؤية الحقيقة. هذه هي القاعدة الذهبية في العمل المهني الإعلامي. والتي تعني التجرد والاستقلال وإتاحة الفرص المتكافئة للرأي والرأي الآخر. وتوفير كل الحيثيات المطلوبة للحكم على الأشياء أو الأشخاص. والإعلاميون يعرفون جيداً تلك الأسس المهنية فقد صارت برتكولاً معلوماً للأداء. لا يعترض عليه إلا مكابر. ولكن التحايل على القواعد والضوابط مكرٌ يعرفه البشر من قديم. وأخطر أنواع هذا المكر هو التمسك الشكلي بالأسس المهنية ومخالفتها في الحقيقة والمضمون. وأخلاقيات العمل الإعلامي ليست بعيدة عن أسسه المهنية لأنها تتعلق بتحرى الصدق ونشدان الحقيقة وتحاشي التضليل بتهويل الأشياء أو تهوينها. وتشمل عدم تقاضي ثمناً صغيراً أو كبيراً مباشراً أو غير مباشر غير الاستحقاق العلني المعلوم من الجهة المستخدمة. أو فإن ذلك أسوأ من أن يشهد الشاهد في المحكمة لطرف ما لقاء أجر أو ثمن. ولاشك أن عشرات المدونات قد وضعت لضبط المسلكية الإعلامية ولكن الأمر يقتضي أكثر من الأوراق والأحبار. وأول ذلك المزاوجة في التعليم الإعلامي بين المهني والأخلاقي لكي يكون الإعلامي منصفاً صادقاً عفيفاً نزيهاً منحازاً للحقيقة ميالاً لنصرة الضعفاء غير هيابٍ لسطوة الأقوياء.
الجمهور والخطاب الإعلامي:
والجمهور هو أهم أطراف العملية الإعلامية والأولى بالتقديم عند التخطيط للخطاب الإعلامي وعبر إرتحال الكلمة في وسائط الإعلام.لابد للجمهور أن يكون حاضراً أولاً وآخراً . لأن المُراد هو تنويره وتعليمه وتثقيفه والترويح عليه.والمُراد توجيهه نحو الوجهات الصحيحة و تعبئة طاقاته لإنجاز المُهمات التي تُؤتي بها الحياة الطيبة السعيدة. والجمهور ليس طرفاً خامداً جامداً مُتلقياً بل لابد للجمهور أن يكون المُلهم الأول عند تخطيط الرسالة . ولابد أن يكون السؤال الأول هو هل الجمهور مهيئ لتلقي هذا الخطاب ؟ فالإتصال لا يبدأ بالكلام بل يبدأ قبل إبتداء الكلام . فالمُحاضر ينعم النظر في أوجه المُخاطَبين لكي يعرف من يُخاطِب وكيف يُخاطِبهم , هذا في الإعلام المُباشر . أما الإعلام الجماهيري فلابد أن يبدأ بقاعدة بيانات واسعة عن الجمهور المُخاطَب أجناسه ,أعماره ,ثقافته ,لهجاته,مزاجه,قيمه ,إمتثالاته آراؤه فيما يجري وتفاعله مع الآراء والأحداث و مردود الرسائل الإعلامية السابقة وأثرها وتقويمه لأهل الخِطاب وللإعلاميين. ولئن كان الله عز وجل قد خَاطب الرُسل أن يُخَاطبوا الناس علي حسب أحوالهم ومُراعاة أعرافهم وأنزل كتابه علي سبعة أحرف "ألسن" أليس في ذلك درس للإعلاميين لكي يُراعوا أحوال الناس وأعرافهم وألسنتهم بل وأمزجتهم في الخطاب . وأهل الإعلام حُراس  البوابة كانوا يتعرفون علي ما يريد الجمهور وما لا يريد وما يؤثر في الناس وما لا يؤثر فيهم من خِلال ما يُعرف برجع الصدى "Feed back "وهي عملية تُعتبر إمتداداً للعملية الإعلامية فالعمل الإعلامي ليس خطياً بل هو دائري فأنت ترسل وتستقبل وتتفاعل مثلما يفعل حامل جهاز "Walky-talky" فكأنك تخاطب الجمهور بكلام ثم تصمت لتسمع رجع الصدى لتُعيد شرح الكلام أو تضيف إليه أو تُؤمن علي ما قِيل أو تعتذر عما قلت أو تتراجع عنه وتتبني ما قِيل. وبهذا الوصف فأن الرسالة الإعلامية فضفاضة بطبيعتها وميّالة للتحور والتشكل تجاوباً مع رجع الصدى . وقد أُتيحت فرص جديدة عبر التقانات الجديدة  الحاسوبية منها والشبكية . والمُتصل منها بإستخدمات متوسعة للكيبل وللهواتف  النقالة ورسائل SMS والفيديو عبر الهواتف. فالتفاعلية أصبحت صفة  متوسعة للإعلام اليوم وسوف تتسع غداً بأقدار  أوسع . حتى قد تصبح حصة الجمهور في صياغة الرسالة أكبر من حصة مُخططي الرسالة وحُراس البوابة . وليس هذا بالخبر السئ. لأنه سوف يتبدي بفاعلية  أكثر لأثر  الرسالة . فمن باب الفكاهة من يصوب المسدس لدماغه لا ينافسه أحد في دقة التصويب! (لماذا لا تضحكون؟). هل صارت مهمة  المتصرفين وحُراس البوابة أسهل الآن  في الوصول لمبتغاهم من التأثير علي الناس  لكي يناصروا خطاً سياسياً محدداً أو أن يُقبلوا علي شراء سلعة ما أو أن يتبرعوا لمشروع خيري ما أم أن التقانات الجديدة وانفجار عصر  التفاعلية قد أحال قدراتهم لتحقيق ذلك  إلى ضعف ووهن شديد .الرأي لدي هذا الطرف أن التفاعلية رغم أنها سوف تعطي دوراً أكبر للجمهور  فأن واضعي الأجندة من مُتصرفين وحُراس بوابة سيزيد نفوذهم أضعافاً مُضاعفة فقط لو هجروا نزعة  الهيمنة و روح الوصاية وتحلوا بأقدار أكبر من الديمُقراطية والتعاطف مع الآخرين.

الأحد، 10 أبريل 2011

الشريعة .. والمشروع الوطني 1 - 3



   تابعت باهتمام بالغ ما جري من ملابسات حول العبارة التي جاءت علي لسان الاخ الصديق اللواء حسب الله عمر  والتي لم يساورني (لمعرفتي بالرجل) أدني شك أنها جاءت علي غير المعني المراد. بيد ان الانفعالات التي اعقبت تلك المداخلة والملابسات التي تلتها تدعو الي وقفة ضرورية للتأمل حول موقع تحكيم الشريعة من المشروع الوطني السوداني. لاسيما ونحن نقبل علي اجتراح مرحلة جديدة من مراحل التطور السياسي في السودان.
الشريعة والسياسة
   ولربما يكون من المستحسن أن نبدأ بتعريف الشريعة في اللغة والاصطلاح. يقول الفيروز آبادي في القاموس المحيط (الشريعة هي الظاهر المستقيم من المذهب والشرعة هي مورد الشاربة "يقول بن منظور" شرع الوارد يشرع شرعا وشروعاً: تناول الماء بفيه) والشريعة والشراع والمشرعة المواضع التي ينحدر منها الي الماء، قال  الليث بن سعد وبها يسمي ما شرع الله للعباد شريعة. والشريعة في كلام العرب شرعة الماء وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. والعرب لا تسميها شريعة حتي يكون الماء عداً لا إنقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يسقي بالرشاء وفي المثل:- أهون السقي التشريع ذلك لأن مورد الأبل اذا ورد بها الشريعة لم يتعب في إسقاء الماء لها كما يتعب اذا كان الماء بعيداً. والمتأمل فيما سبق يتوصل الي أن معني الشريعة يتلخص في أنها هي المورد السهل الميسر للماء الذي لا ينقطع معينه ويسهل الوصول اليه والإشراف عليه. ولعل الكناية عن الهداية الألهية بمشرع الماء الذي لا ينقطع معينه ولا يتعسر الوصول اليه كناية ذات دلالة عظيمة. ذلك ان الماء الذي هو سبب الحياة في كل بدن حي يشبه هداية الله التي هي الحياة لكل روح حي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) فكما تستمد الابدان حياتها من الماء تستمد الارواح حياتها الحقة من هداية الشرع. وفي التشبيه بشرعة الماء إشارة لا تخفى عن كون معين الشريعة لا ينضب وان ورود سبيلها سهل ميسر. وكما أن اهون السقي التشريع فسبيل الشريعة هو الاهون والأيسر. وكل شرع وضعي سواه قد تتعسر موارده ولا تصفو مشاربه ولا يدوم معينه.
   وأما الشريعة في الاصطلاح فذات نسب قريب بالمعني اللغوي وهي الطريق الموصلة الي تعاليم الدين وهديه واحكامة (ثم جعلناك علي شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) أي جعلناك علي منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلي الحق فالشريعة هي المنهاج المخصوص الذي يؤدي الي حقائق الدنيا والدين "شرع لكم من الدين ما وصي به نوحاً والذي اوحينا اليك" فالشريعة هي الطريقة المتنزلة في زمن مخصوص لتحقيق مقاصد الدين والدنيا. يقول الزمخشري الشريعة هي المنهاج والطريق الواضح الذي تمرون عليه".
   أطنبنا في تعريف الشريعة لأننا سوف نستخدم كل المعاني الواردة لاحقاً معاني الاحياء والتيسير والتسهيل والهداية والاتصال والاستمرار وصلة كل ذلك بالوقت والمحل.
السياسة لغة واصطلاحاً
   كلمة سياسة بمعناها الدارج اليوم في حياتنا المعاصرة تختزن المفهوم الغربي لهذه المفردة. وذلك المفهوم يجعل دلالتها الأظهر هي ما يتصل بالقوة والسلطة والدولة. إلا أن التمحيص الدقيق لهذه المفردة في السياق الحضاري الاسلامي يبرز من المعني الدلالات التي تتصل بالتربية والتدبير والرعاية وتحصيل المصالح ودرء المفاسد. يقول ابن منظور:- السياسة القيام علي الشئ بما يصلحه والأصل السوس الطبع والخلق والسجية وفي قاموس مختار الصحاح السياسة هي الإيالة يقال آل الأمير رعيته من باب قال أي ساسها واحسن رعايتها وفي ذلك اشارة لطيفة الي ان الوالي ينظر في ما توؤل اليه قراراته وتصرفاته واوامره فكأن السياسة في الاصل نظر في المآلات وهذا معني صحيح. وكلمة سياسة الي جانب النظر في المآلات تحمل معني التوسل بكافة الوسائل لتحقيق المقاصد
ومصطلح سياسة الوارد في كتب التراث الاسلامي لا يخرج عن هذا المعني الي المعني المعاصر الذي يركز علي امتلاك واستخدام السلطة والقوة فالمصطلح يرد في كتب التراث جميعاً في سياق تدبير المرء لامر نفسه وتدبير المرء لامر اهله وتدبير الامام لامر الأمة واستخدم الفلاسفه السياسة لذات المعني فعند الفارابي قى كتاب السياسة المدنية رئيس المدنية الفاضلة هو إنسان كامل صار عقلاً وتجرد عن شوؤن المادة وهموم الحياة اليومية وهو المدبر لشان الامة في المدينة يقول الفارابي "ذلك لانه مستغرق في الله مستضىء بنوره يقبس من لدنه العلم الالهي الذي هو مصدر التشريع والتدبير للمدينة الفاضل اما ابن سينا ففي رسالة (السياسة) فهو يتحدث عن حاجة الناس للسياسة لان المجتمع البشري لا يصلحه إلا قيام الحكم والتدبير والسياسة عنده اصلاح وتدبير يقول ان العقل والشرع اساس الصلاح فالفعل بكشف العيوب وكشف العيوب ضروري لاصلاح النفس واصلاح الآخرين، وابن خلدون في المقدمة يكتب عن حفظ الدين وسياسة الدنيا به وكل ذلك مهمة الخليفة الحاكم. وكلمة سياسة عنده هي رعاية الخليفة لمصالح الناس في العمران البشري الذي هو مقصد جميع الناس.
والغزالي يمضي ذات النهج فالسياسة هي تربية النفس هلي اخلاق الايمان وحملها علي أصول العدل والانصاف ويحدد مهمة السياسة الشرعية في اصلاح نفس الراعي وإصلاح شان الرعية. فالسياسة اذاً في مفهومها الحضاري الاسلامي ليس حيلاً للوصول الي السلطة او استخدامها بخطرات القلوب او تشهبات النفوس بل هي تدبيرالانفس والجماعات والمجتمعات بما يصلحها لتربيتها علي اخلاق الايمان ودرء المفاسد والمعايب عنها وجلب المنافع والمصالح إليها والاجتهاد فيما يصلح دنيا الناس ويصلح بها آخرتهم في عاقبة أمرهم.
السياسة والناس
   اطنبنا في تلك الشروح لاننا نري لزوم ذلك في توضيح مغزي السياسة في حياة الناس افراداً وجماعات ومجتمعات. فالسياسة ليست هي طرائق التوصل للسلطة ولا هي نزاعات أهلها حولها ولا هي الأطر والهياكل والتنظيمات فلئن كان ذلك كله متصلاً بامر السياسة إلا ان المراد من التوصل الي السلطة ومن تأسيس المؤسسات لممارستهاهي استخدام التصرف بالسلطة لجلب المنافع والمصالح للناس ودرء المفاسد والشرور عن الناس. والسياسة هى تصرف الحكام بالسلطة , فاذا انحصرت تصرفات الحكام الي تجييرسلطاتهم للظهور فوق اعناق الناس واكتساب الجاه باسباب ذلك. والي استخدام النفوذ لاحتياز الاموال واغداقها علي النفس والاقرباء وعلي المنسوبين والمحسوبين. فتلك سياسة فاسدة. ولكنها صارت وكأنها العلامة المائزة للسياسة المعاصره،  ولعالم السياسة والسياسين حتي صارت المفردة وكانها كلمة منتنة. لا تذكر إلا وتقشعر الابدان وتشمئز الانفس. واما السياسة المرادة بالمعني فهي كما ذكرنا آنفاً أصلاح الانفس لإصلاح شوؤن المجتمعات بصلاحها وحسن تدبيرها.
الدين والسياسة
   فاذا كانت السياسة لا صلاح لها إلا بصلاح الانفس والاخلاق. فقد توصلت الحكمة الانسانية ان افضل ما يتوسل به الى حسن الاخلاق هو التدين. اي التمثل بهدايات الدين ومثله واخلاقه ونحن نقر بأن التخلق بالخلق الحسن ليس وقفاً علي اهل التدين. فالفطرة السليمة العقل القويم هو الأخر وسيلة لتربية النفوس علي أحاسن الاخلاق. بيد أن الدين الحق هو أهم تلك الوسائل جميعاً بل أن الدين الحق هو الذين يصون الفطرة السليمة ويربي العقل السديد القويم. وجميع الفلاسفه الذين وضعوا النظريات الكبري في السياسة من لدن ارسطو وافلاطون إلي الفارابي وابن سينا وابن رشد وصلوا جميعاً بين نظام الدين ونظام الفكر ونظام الاجتماع الذي هو السياسة الفاضلة.
اما العلمانيون دعاة الفصل بين الدين والسياسة فقد كانوا ولا يزالون يبعدون النجعة عن الدين في شأنهم الخاص مثلما يدعون الي ابعاده في الشان العام, ولئن كانوا قد استغنوا عن التدين في خويصة انفسهم فليس من المستغرب ان يكونوا دعاة ابعاده عن الشوؤن العامة في المجتمع. والعلمانيون يزعمون انهم ليسوا اعداء للتدين وانما يريدون للدين ان يكون شانا خاصاً. وكذبوا فافعالهم تكذب اقوالهم لأنهم لم يعملوا بما يقولون بل نبذوا الدين في حياتهم الخاصة كما رفضوه في الحياة العامة. وقولهم ان الدين مطلوب في الحياة الخاصة غير مرحب به في الحياة العامة قول يناقض تسليم الجميع بأن الانسان مدني بطبعه أي أنه مؤثر في غيره متاثر بهم من خلال المجتمع فاذا كان التدين ضروري لأصلاح الانفس فإن المجتمعات لا يرجى صلاحها إلا بقيام النفوس الصالحة علي تدبير امرها بالسياسة الفاضلة والاجتماع السياسي، بقتضي تعارف الناس وتعاقدهم علي الانظمة والاخلاق المرعية التي تحقق مقاصدهم وترعي مصالحهم. ولا سبيل الي ادراك ذلك إلا باستلهام الهدي الالهي والاستنارة بهدي العقلء الانساني والاستبصار بعبرة تاريخ الانسانية جمعا.




نواصـــل

الأحد، 3 أبريل 2011

الثورة.. والثورة المصنوعة 2-2


        الثورة ظاهرة بركانية فاذا كان بالامكان توقع توقيت انفجار البركان، فانه من الممكن توقع انبعاث تفجر الثورة. ولاشك أن بالامكان التخطيط لتظاهرات واعتصامات واضرابات ولكن ذلك كله لا يصنع ثورة . اي لن يؤدي الي انفجار الثورة الشاملة.  ما لم تكن شروطها متوافرة وقد ذكرناها من قبل. وهي التراكم فالاحتقان فالاحتباس ثم الانفجار. وفي مقال سابق ذكرنا ان جهات كثيرة لن تكف عن محاولة صناعة ثورة شعبية. سواء كانت تلك الجهات جماعات ايدولوجية او احزاب سياسية او منظمات استخبارية. واشرنا في ذلك السياق لثورة وكالة المخابرات المركزية في إيران. ثم الي المحاولات الاخيرة لصناعة ثورات في العالم العربي علي غرار الثورة التونسية والثورة المصرية.
الانتفاضات العربية.. التاثيرات المتبادلة:
ومما لا شك فيه ان الفضاء الثقافي المشترك لسانياً ووجدانياً في العالم العربي، يجعل التأثير بين مجريات الوقائع في البلدان العربية امراً متوقعاً. فليس من المستغرب ان يحرك النجاح الذي احرزته انتفاضات الجماهير في تونس ومصر مشاعر الغاضبين او المحبطين او الطامعين في بلدان عربية اخري. يساعد علي ذلك شئ من التشابه في الاوضاع الاقتصادية والسياسية في البلدان التي مسها طائف الثورة. بيد أن الابصار بالمتشابه لا ينبغي أن يعمي الدارس الفاحص عن النظر الي المختلف. فهنالك دائماً موافقات وفروق. وغلبة المشابه علي المختلف يرجح احتمال الثأثير الاكبر. وأما اذا غلبت الاختلافات فأن توقع نفس النتائج يصبح مجازفة في التحليل او إستنامة في  الحلم الجميل.
الثورة المصنوعة.. حالة اليمن:
        لسنا هنا بصدد الدفاع عن نظام حكم ولسنا في وارد إدانته بذكر نقائصه او عيوبه. فليس في النظم الحاكمة في العالم العربي اليوم نظام يمكنه ان يدعي خلواً من المعايب والنقائص. فهي اما موحلة في الطائفية او العشائرية او الجهوية. او هي موغلة في التعصب المذهبي او الايدولوجي او الحزبي. وتتفاوت فيها اوضاع الحريات ومستويات النزاهة ولكنها لا تقترب ابداً الي مقام الرضي والامتنان الشعبي. واليمن ليست حالة خاصة فالاحتكار الحزبي وتولية الاقرباء والانسباء علائم ظاهرة لا يسع النظام نكرانها، ثم أن خصومه يعيبونه باكثر من ذلك. ثم ان اليمن بلد فقير فيه موارد كثيرة مضيعة، ولحكومته خصوم شداد طائفيون وايدولوجيون وخصوم آخرون سياسيون. بيد ان النظر السديد للحالة اليمنية يفسر تطاول تحقق أمل الآملين في تداعي النظام وتهاويه. ذلك انه مهما اطلقت القنوات الفضائية من القاب الثورة والتغيير علي تحركات المعارضين والمناهضين وعلي ساحاتهم بساحات التغيير، فان ذلك لن يغير واقع ان ما يجري في اليمن محاولة لاستيلاد ثورة لم يكن آوانها قد ازف. لانه مهما توافرت شروط تراكم اخطاء ومظالم اورثت النظام عضباً يمور في بعض الصدور، الا انه كان في اليمن دائماً متنفساً لهذا الغضب في احزاب المعارضة وفي صحفها وفي تظاهرات الحراك الجنوبي التي لم تخمد سنيناً عدداً، وفي عراك الحوثيين . كان هنالك غضب متراكم ولكن لم يكن هنالك احتقان ولا احتباس. ولذلك لزم الصانعين عملية توليد صناعي طويلة المدي وعالية التكلفة . فلئن كان هنالك مئات الالوف قد استئيسوا من خير يأتيهم من بقاء النظام او توجسوا من شر قد يأتيهم من استمراره، فان هنالك مئات الالوف (كما لا تكذب عدسات الكاميرا) لا يزالوان يعلقون رجاءهم علي اصلاح النظام بمبادرات من داخله لامن خارجه, او هم يتوجسون ممن قد يأتي من بعده من فوضي او صراع او انشقاق او أنفصال. وانقسام الساحة اليمنية هذا الانقسام الكبير دليل علي ان محاولة تصوير ما يجري في اليمن وكانه صنو وشبيه لما جري في تونس ومصر محاولة تفتقر الي الفهم العميق او التحليل المتجرد. فلم يحدث في تاريخ الثورات مبارزة بالجماهير الغفيرة كما يحدث في اليمن اليوم. ولن يشتري ابداً صاحب حكم سديد إدعاءات الخصوم بان انصار الرئيس هم رجال ونساء برسم البيع والشراء. فهذا فوق تجاوزه للمعقول فإنه إزدراء لشعب كريم لا يجوز رمي مئين الالوف منهم بهذا البهتان العظيم. ومهما جرت الوقائع والاحداث في اليمن فأنتهت الي تسويه تعصم الدماء وتعزز الاستقرار وتحقق مطلوب الناس في الحرية. او جرت المقادير بغير ذلك فان الأمر لله من قبل ومن بعد. ولكن ذلك لن يغير الحقيقة المتمثلة في تلاقي مصالح احزاب وجماعات ايدولوجية وطائفية لصناعة ثورة في اليمن في مناخ الثورات العربية. وقد تفلح تلك المساعي في تغيير النظام ولكن ذلك لن يصنع واقعاً ثورياً يفتح الابواب لتحولات جوهرية في واقع ذلك البلد الشقيق.
محاولات صنع الثورة سودانية:
        ومناخ الثورات العربية يحرك اشواقاً قديمة لجماعات ايدولوجية صغيرة وقوي سياسية غاضبة ومخابرات اجنبية متربصة لتجريب صناعة انتفاضة جديده في السودان. لم لا وهم يحتقبون  ذلك منذ اول يوم تفجرت فيه الإنقاذ. فشعار الانتفاضة والإنتفاضة المحمية كان دائما حاضراً في ما يخطط هؤلاء ويدبرون.  وسناريو ثورتهم هو نفس السناريو المرسوم. لأن الطاقة الابداعية محدودة لدي هؤلاء فشعارات في الفيس بوك وتويتر (90% من التعليقات والتويتات من خارج السودان) ثم تظاهرات من مجموعات طلابية ثم إدعاء قمع ثم شهداء ثم إثارة فوضي من بعض حاملي السلاح وهكذا تندلع الثورة. ولم لا والسودان هو صاحب السنة الثورية في العالم العربي.
ولكن هؤلاء في غمرة التمني تناسوا كثير من الدروس وتجاهلوا كثير من الامانى في اكتوبر وابريل انتهت الي حيث يخيب الرجاء لا الي حيث يتحقق المأمول.  وتجاهلوا ان التظاهرات التي كانت وقود الثورة في البلاد العربية قد خرجت الجامعات (حيث يسيطر الاتجاه الاسلامي علي 80 % من مقاعد اتحاداتها في السودان) او من المساجد التي هي موئل الاتجاه الاسلامي وحائط إستناده المتين. فمن إين ستبدأ ثورة ابي عيسي وحسنين ونقد؟ واي اسم سوف يطلق علي هذه الثورة؟ إن كانت الثورات العربية يطلق عليها ثورات الشباب ؟أمن حظ هذا الشعب ان يقوده الشيوخ فألي أين؟؟ واي جمعة غضب سيخرج فيها ابو عيسي لسان حال الثورة الموعودة والناطق بأسمها وامثاله.  تلك ثورة الغائب عنها خير من الحاضر . بيد ان ذلك لا يعني ان الانقاذ براء من العيوب او انها خلاء من الاخطاء او انها في مأمنة من غضب الرأى العام عليها. ولكن ما يجري في السودان مهما شابته النقائص او اعتراه القصور فان للناس متنفساً كبيراً للتعبير. وفي مسعي الحاكمين للاصلاح مندوحة عن التغيير الذى لواؤه مرفوع بواسطة من ذكرنا آنفا. ثم أن النظر الي بدلاء الحاكمين عصمة للناظرين من المجازفة التي ترد صاحبها من الظل الي الحرور او إن شاء أخرون من الرمضاء الي النار  وحسبنا الله ونعم الوكيل.



أنتهــــــــــي،،،

الثورة.. والثورة المصنوعة 2-1


        الثورة كلمة تترد كثيراً هذه الايام في العالم العربي وترتجع اصداؤها من المحيط الي الخليج. ولا شك ان تحليلات واجتهادات كثيرة حاولت تفسير هذه الظاهرة ولماذا تتزامن احداثها في ارجاء العالم العربى  كافة؟ هل في ذلك دلالة علي تشابه الاحوال ام توحد الشعور العربي ام انها تداعيات تشبه تداعي احجار الدمينو؟
الثورة.. ظاهرة طبيعية وانسانية:-
الثورة في معناها البسيط ظاهرة طبيعية انسانية ناجمة عن تفجر بعد احتقان. لذلك نتحدث عن ثورات البراكين كما نتحدث عن ثورات الغاضبين. والمراحل التي تسبق الثورة طبيعية او بشرية هي مرحلة التراكم فالاحتقان فالاحتباس فالانفجار. لذلك فأن الثورة لا يمكن ان تكون حدثاً آنياً وان بدت حدثاً فجائياً. وحالة البركان هي افضل تشبيه تمثيلي للثورة. ذلك ان البركان هو اجتماع هذه المراحل الاربع . وعندما يتحدث المتحدثون عن الثورات يطيب لهم ان يتخذوا من الثورة الفرنسية مثالاً ولكن المثل الاقرب زماناً هما الثوراتان التونسية والمصرية. ويسهل علي كل مراقب ان يري كل اطوار الثورة عبر السنوات في تراكم المظالم والفساد بوجوهها الاقتصادية والسياسية . وكيف تتفاقم الطبقية في المجتمع ويصبح المال دولة بين اغنياء تتضاءل اعدادهم وفقراء تتزايد اعدادهم . .وكذلك اضمحلال المشاركة السياسية من الشعب الي الحزب ومن الحزب الي الزمرة الحزبية ومن الزمرة الحزبية الي العائلة والمحسوبين علي العائلة. وفي كل الاحوال يضيق الماعون اقتصادياً وسياسياً.  ومع تزايد الغضب باسباب المظالم والفساد تتزايد محاولات السيطرة علي هذا الغضب وكبته بمزيد من الاجراءات الفوقية والقمعية حتي يحدث انسداد كامل او شبه كامل . وبذلك تتوافر كل ظروف الانفجار ولا يبقي الا مؤثر طفيف مثل رفيف اجنحة الفراشة ليقع تحت التداعي العظيم. وقد كان رفيف اجنحة الفراشة في تونس هو انتحار البوعزيزي وكان في مصر قتل شاب يافع فى الاسكندرية وكان في ليبيا اعتقال محامي عائلات ضحايا السجن الالف ومائتين. لا نحتاج     الي استفاضة لتاكيد ان ما جري في تونس ومصر وليبيا ثورة بكل ملامحها ومعالمها. ولكن ماذا عن الانتفاضات في الاردن والبحرين والعراق والمغرب وعمان واليمن واخيراً التظاهرات في سوريا هل هذه ظواهر ثورية تنطبق عليها تلك الوصوف والشروط. ولا يمكن لاحد التعميم في مثل هذه الظواهر.  ولكن يتوجب علينا ان نلاحظ ما اذا كان هنالك حالة احتقان وحالة احتباس ثم انفجار ام ان المحاولات في هذه الحالة او تلك مجرد محاولة لاستنساخ الثورة في غير مكانها الملائم او أجلها الموقوت.
الثورة المصنوعة او استنساخ  الثورة:-
والسؤال ههنا هل بالامكان استنساخ الثورة او صناعتها. بادي الرأي نقول ان نزعة المحاكاة والتحريب نزعة انسانية اصيلة . ربما هي ما تبقي من صفة القرد ان كان اصل الانسان الي القرد يعود . ولكن من المعلوم ان بوابة الانسان للتعلم هي المحاكاة ومحاكاة الثورة للوصول الي نتائج مشابهة ستظل محاولة تتجمشها جماعات او احزاب او مخابرات لعلها تتوصل الي انفجار جماهيري يحقق اجندة اصحاب المحاولات. والاجابة ان غالب تلك المحاولات الي الفشل. بيد ان ذلك لا يعني عدم نجاح بعض المحاولات في تخليق شبيه للثورة في مظاهرها اي في صناعة هوجة تصنع فوضي قد تحقق بعض اهداف صانعيها ولكنها لن تحقق بحال مردات الشعب.
ثورة CIA  المصنوعة:-
ولمثل هذه الحال نسوق مثلاً للثورة التي تصنعها المخابرات الامريكية ضد الحكومة الوطنية الايرانية علي عهد مصدق رئيس وزراء ايران في مطالع الخمسينيات . والذي جاء علي اثر ثورة شعبية سانده فيها رجالات الدين في ايران. وكان مصدق وطني متحمس عمل علي تحويل سلطة الشاه الي سلطة رمزية وضرب ضربته الكبري بتأميم البترول الايراني. واجتهدت المخابرات البريطانية لازاحته من السلطة بتدبير عدد من الانقلابات الفاشلة بالتواطؤ مع الشاة بهلوي . وقصة الثورة التي صنعتها وكالة المخابرات المركزية الامريكية CIA يرويها الضابط السابق في الوكالة والكاتب المشهور تيم فيرنر في كتابه عن تاريخ الوكاله المركزية الامريكية والموسوم (تراث الرماد) (Legacy of Ashes) والذي سرد فيها تاريخ الوكالة باخفاقاتها الكثيرة وانجازاتها القليله.  ومن بين تلك الانجازات القليله هو تزييف قيام ثورة شعبية مضادة لثورة مصدق . نجحت في الانقلاب علي رئيس الوزراء الوطني واعادت للشاه سلطاته المطلقة في حكم ايران (يمكن مطالعة القصة مفصله في كتاب Legacy of Ashes) ولكنها سنوردها مجملة. وكانت الخطة ترتكز علي عدة محاور مموله بالكامل من الوكالة علي عهد دلاس. يروي تيم فيرنر  مراحل الخطة بالقول (في فجر 19 اغسطس استأجرت الوكالة مجموعة من الدهماء لاجتراح احتجاجات واسعة وفوضي. وجاءت الحافلات والناقلات بمجموعات من رجال القبائل جنوب طهران . وكان قد دفع لزعمائهم بواسطة CIA ووصف فيما بعد وليام راونتري نائب السفير الامريكي في طهران الوضع بانه كان يبدو وكانه ثورة تلقائية بدأت تظاهرة عامة في امكنة للرياضة الصحية شارك فيها حاملو الاثقال ومجموعة من رجال السيرك والاستعراض.  بدأوا في الصباح بشعارات ضد مصدق، وتمضي فصول القصة " ثم بدأ التخريب وحرق مكاتب الصحف الموالية للحكومة والتهجم علي مقرات الاحزاب الموالية لمصدق . وضمت مجموعات الثوار المستأجرين رجال دين تكفلوا بالفتاوي. واتسعت دائرة الفوضي وقتل ثلاث اشخاص وجري الادعاء بانهم ضحايا لقمع الحكومة . ثم اتسع القتل حتي بلغ مائتي قتيل . واحتلت المجموعات الموالية للشاه والجنرال زاهدي المتواطئ مع  الوكالة لاذاعة المحلية. في اجواء هذه الفوضي تحرك الجنرال زاهدي لقصف مقر رئيس الوزراء. وانتهي الانقلاب الذي تم تصويره وكأنه ثورة شعبية باعتقال مصدق وسقوط حكومته وتولي زاهدي السلطة لتسليمها كاملة للشاه. يقول تيم " وتسلم زاهدي مبلغ مليون دولار مكافأة علي اعادة السلطة للشاه والبترول للامريكيين وحلفائهم البريطانيين " راجع  Legacy of Ashes pages 92-105". وكانت تلك الثورة المصنوعة واحدة من امجاد وكالة لم يكن رصيدها من النجاح إلا حصاد هشيم او تراث رماد كما يقول مؤلف الكتاب.
ثورة الشعب ام الموساد:-
تلك كانت نسخة الخمسينات في زمن صناعة الثورات. بيد ان الامور تطورت الي مدي بعيد بعد ذلك . واستفادت اجهزة المخابرات من تجارب ونماذج عديدة وحاولت تقليد ثورات حقيقية مثل ثورتي تونس وليبيا. وفي الاونة الاخيرة كشفت مواقع استخباراتية تفاصيل خطة لصنع ثورة تطيح بالنظام في سوريا. ولن  يتعجب احد ان تكون سوريا هدفاً لنقل الثورة اليها . فسوريا تصنف غربياً من الدول الشمولية التي تقمع شعبها.  ولكن اهم من ذلك انها الدولة التي توفر الملاذ الآمن لحركات المقاومة الفلسطينية . وهي التي دعمت ولا تزال تدعم المقاومة اللبنانية. والخطة كشفها موقع اسرائيلي وهي حسب ما ورد بالموقع "تعتمد استراتيجياً علي استغلال رغبة الناس المشروعة في الحرية .وقد استقطبت اموال قدرت بملياري دولار لتنفيذها. وهي تستخدم انموذج الثورة التونسية باقناع مجموعات من الشباب بان طريق الاصلاح من داخل النظام مغلق . وان الحل هو الثورة الشاملة اما الشباب الذي يجري تجميعه عبر مواقع التواصل الاجتماعي . فهو شباب متعلم غالبا ما يعاني من العطالة وهؤلاء غير مدفوع لهم ولا هم يعلمون شيئاً عن الخطة . ولكن المجموعة الاخري وهي شبكة بلطجية كما صار يطلق عليهم فهو خارجون عن القانون واصحاب جرائم كبري.  وهؤلاء مدفوع لهم للقيام بالتخريب . وربما الاعتداء المسلح علي الثارين والشرطة والأمن علي حدٍ سواء.  ثم هنالك مجموعة من الغلاة الطائفيين من الطائفتين السنية والعلوية . كما هنالك تحريض للمجموعة العرقية المتمثلة في الاكراد . ثم مجموعة من الاعلاميين بعضهم متحمسون بسبب اجواء الثورة العربية . والبعض الاخر مدفوع لهم. والخطة تعتمد علي استفزاز السلطة لتنجر الي القمع والعنف . واستغلال الفوضي لايقاع ضحايا يثير عددهم غضباً عارماً ضد النظام. والخطة مفصلة تفصيلاً دقيقاً قد يثير الريبة لدي البعض . وقد يعتبرها البعض واحدة من اساليب الحكومة السورية في التحصين ضد انتقال عدوي الثورة لربما . ولكن المعلومات عن الخطة انتشرت حتي في المواقع الاستخبارية الاسرائيلية . وتطابقت تفاصيلها التي نشرت قبل الاحداث في سوريا مع ما جري بعد ذلك في درعا وحمص واللاذقية والصنمين وغيرها.
صدق او لا تصدق...ولكن:-
لا شك ان القراء سوف يختلفون حول صدقية الرواية وبالامكان مراجعتها في مواقع الشبكة الدولية.  بيد ان الامر الذي ليس فيه جدال ان مشروع صناعة الثورة سيظل مشروعاً مطروحاً لدي كثير من القوي السياسية المعارضة للانظمة ولدي وكالات المخابرات المعاديه. واما كاتب السطور فيري شواهد كثيرة تدعوه لاعتبار ما نشر صحيحاً . ليس بسبب التعاطف مع سوريا التي تقف علي جبهة صامدة ضد مشروعات اختراق الامة . وليس تبريراً لأي شكل من اشكال الحرمان السياسي والاجتماعي . والذي تحركت القيادة السورية للتعامل معه بجديه ملحوظه وبسرعه غير مسبوقه. ولكن السناريو سوف يتكرر في بلدان اخري مستهدفه بواسطة المخابرات المعادية وعملائها من الاحزاب المحموله علي اكتاف وكالات الاستخبار الدولي.
نواصـــــــل،،،

منظومة النزاهة الوطنية.. خطوات لازمة 2-2


        سبقت منا الاشادة بالخطوة المهمة التي اتخذها السيد رئيس الجمهورية بتأسيس مفوضية لمكافحة الفساد واتبعنا الاشادة بالدعوة لنظره كلية لبناء منظومة شاملة للنزاهة العامة. فهنالك من السياسات والتشريعات والمؤسسات عدد لا بأس به مناط به تاكيد النزاهة في اداء التكاليف . بيد انه من الواضح ان هنالك فجوات في شبكة النزاهة العامة تسمح بالمرور لعدد يثير القلق في متقلدي الوظائف العامة لتحقيق مآرب لا تخدم المصلحة العامة من خلال النفوذ الممنوح لهم بموجب الوظيفة العامة. وهذه المداخلة الصحفية تبغي ان تثير الاهتمام بمراجعة شاملة لمنظومة النزاهة الوطنية بعيداً عن المزايدات السياسية.
السياسات والتشريعات:-
لا شك ان اسلوب الوقاية أجدي من اسلوب العلاج . ولذلك فان وضع السياسات وسن التشريعات التي تعزز النزاهة هو احدي الوسائل واكثرها فاعلية لمجابهة انتشار الفساد في مفاصل المجتمع والدولة. فالسياسات العامة التي تتيح انتشار المعلومات وسهولة الحصول عليها واحدة من اهم الوسائل . .ولذلك فان تشجيع ثقافة المعلوماتية واتاحة تقانتها للجمهور الواسع واعتماد التعامل الاليكتروني عبر الحكومة الالكترونية وعبر المعاملات الاليكترونية سيسد ابواباً مشرعة للفساد . لان الذي سيجري بين الايدي آنذاك ليست الاموال ولكنها المعلومات عن تدفق هذه الاموال. ولأن تشجيع المعلوماتية يتيح المشاركة الواسعة للمجتمع ويعزز سبل الحصول علي المعلومات فان اتجاه الدولة نحو سياسات تشجيع ثقافة المعلوماتية وتقانتها  هى أحدي أجدي الوسائل لتقليل ظواهر الفساد. ويتوجب ان تتجه سياسات الدولة عامة الي جعل سرية المعاملات استثناء نادراً في المعاملات العامة. كذلك لابد من اعتماد سياسات تشجيع حرية الاعلام وتداول المعلومات بعيداً عن كل رقابة ادارية . وألا تخضع تلك الحرية الا للرقابة القضائية وحدها. كذلك لابد من مراجعة سياسات الاستيعاب والتوظيف في القطاع العام لتقوم علي معايير موضوعية . ينحصر فيها التقدير الذاتي لأدني حدٍ ممكن. وأن يكون الاستيعاب للوظائف العامة مستنده الجدارة والاهلية وان يبتعد عن التقويم السياسي او المحاصصات بسبب الدين او المذهب او العرق او الجهة . واذا اقتضت بعض الظروف الانية معالجات موقوته يتوجب ان تحدد فترة معلومة لهذه المعالجات الاستثنائية. وبناء علي هذه السياسات يتوجب علي المجالس النيابية مراجعة جودة التشريعات بالنظر الي وجوبية اتباع هذه السياسات او سن تشريعات جديدة تنظيمية او تأسيسية . يشمل ذلك مراجعة قوانين مؤسسات ذات أهمية في معالجة ظاهرة الفساد وتشمل النيابة العامة . والتي يجب ان يتم فصلها عن وزارة العدل وتعاد الي السلطة القضائية ليكون ذلك ضماناً لحيادها في القضايا المرفوعة ضد مؤسسات الدولة . وكذلك قانون المراجع العام وهيئة الرقابة الادارية . ولا شك ان تشريعات كثيرة ذات صلة بمكافحة الفساد ستخضع لمراجعات مستمرة للتأكد من ملاءمتها لمكافحة ظواهر الفساد . يدخل في تلك التشريعات القوانين المتعلقة بتنظيم محاسبات الدولة والمراجعة والمناقصات والمزايدات وقوانين منع الاحتكار.  والتشريعات التي تتيح للمواطنيين الحصول علي المعلومات غير المصنفة سرية. ويتوجب ان تشمل رزمة تلك القوانين لوائح تفصيلية ومدونات للسلوك الاداري. كذلك فمما يعزز هذه التشريعات هو مصادقة حكومة السودان علي الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد ومواءمة التشريعات اللاحقة مع بعض بنود الاتفاقية.
الفساد.. الجريمة والعقاب:-
        لردع الفساد وتعزيز النزاهة  لابد من انظمة منضبطة لتعريف الفساد وتجريمه والمعاقبه عليه . وهنالك فجوات واسعة في القوانين السودانية من حيث تجريم بعض اوجه الفساد وتحويل قضاياها الي قضايا مدنية يسهل فى مواجهتها علي الفاسدين التنصل من عواقب افعالهم. ولذلك يتوجب تحويل كثير من افعال عدم الالتزام بالضوابط المانعة للفساد الي جرائم . ووضع عقوبات مالية او عقوبات سجن عليها . وربما يجدر بنا ان نؤشر هنا الي بعض انواع المحسوبية والتي تسبب اضراراً اكثر مما يسببه الاختلاس المباشر من مال الدولة . فعلي سبيل المثال استخدام مسئول او موظف سلطته لتعيين مرشح خارج اجراءات التنافس علي الوظيفة او استخدام مسئول او موظف سلطته لاعطاء معلومات تضر بالتنافس التجاري في القطاع الخاص او مساعدة موظف لعميل لتفادي رسم او ضريبه، كل هذه أوجه شديدة الاضرار بالحق العام والحقوق الخاصة ولابد من تشريع قوانين لادخالها في طائلة الجرائم ولا يكتفي فيها بالجزاءات الادارية.
        ومما لا شك فيه ان توسيع دائرة التجريم لمخالفات الفساد يقتضي اصلاحاً واسعاً في الاجهزة العدلية من حيث تعزيز قدراتها المهنية ومكنتها في فصل النزاعات في وقت وجيز وتسهيل وصول اصحاب الحقوق لاجهزة التقاضي. ولا شك عندي أن القضاء يضطلع بدور مهم للغاية في محاربة الفساد وفي تعزيز النزاهة وفي تشجيع الاستثمار والتنمية. وقد تكون ملاحظتي غير دقيقة ولكن الاعتقاد الغالب لدي ان دربة القضاء لدينا في الامور الاقتصادية والتجارية محدودة .  وتحتاج الي جهود كبيرة لمواءمهتا مع تحديات االنهوض الاقتصادي . وفي هذا الصدد فان تعزيز استقلال القضاء بوصفة موسسة سيادية وضمان عدم وصول اي تأثير من اية جهة خارج المؤسسة إلية يظل امراً ضرورياً للغاية . واستقلال القضاء بصورة صارمة عن السلطتيين التنفيذية والتشريعية هو الذي أملي نظرية فصل السلطات ثم جري السماح بتليين المواقف ازاء العلاقة تمييزاً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية . بيد ان القضاء لابد له من الاستقلالية التامة عن تأثير السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ذلك انه في المجتمع الناهض اقتصادياً فان كثيراً من قضايا الافراد تكون ضد مؤسسات الدولة . وكثيراً ما يتدخل نافذون في تلك المؤسسات لكسب القضايا خارج قاعات المحاكم. الي جانب الاستقلال المؤسسى للقضاء لابد من استقلال القاضي فيما يصدره من احكام . فلا يتدخل احد في التأثير علي القاضي حتي يرفع الامر الي دائرة الاستئناف ثم دائرة المحكمة العليا . ولما كانت المحكمة العليا هى موضع الفصل الاخير فأن كثيراً من الدول تعني بالاختيار لهذا المستوي . وذلك بمشاركة جميع السلطات في الاختيار فالمفوضية القضائية ترشح الاسماء علي اساس الترقي الطبيعي القائم علي الجدارة ويرفع الامر لرئاسة الجمهورية التي ترشح الاسماء ممن تتوفر فيهم جميع صفات الاهلية . ثم يذهب الشأن الي لجنة مختصة بهذا الامر في البرلمان لتأكيد الاختيار. ولما كان الامر كذلك فلابد تحديد عدد قضاة المحكمة الوطنية الاعلي The Supreme  Court  وتوزيع قضاة المحكمة العليا الي دوائر ولائية وقد كان ذلك هو مقتضى الدستور الانتقالي ولكن الامر تأجل او لربما جري تسمية المحكمة العليا بقضاتها السبعين او نحو ذلك محكمة وطنية عليا.
منظمات المجتمع المدني ومكافحة الفساد:-
        هنالك حاجة ملحة لتنظيم جمعيات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص بما يوائم مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. فالقطاع الخاص لابد أن يحمي من الفساد بالتشريعات المناسبة . يدخل في ذلك الحوؤل دون تنفذ كبار رجال الاعمال في اجهزة اتخاذ القرار الاقتصادي ولا يأس من الاستئناس برؤاهم ونصائحهم ولكن الفرق واضح بين الرأي والقدرة علي اتخاذ القرار .  وأوضح صور هذا النوع من الفساد احتلال لجنة السياسات في مصر حسني مبارك بواسطة رجال الاعمال وسيطرتهم علي الوزارات الاقتصادية جميعاً وقد كانت ثمرة ذلك واضحة للعيان . كذلك لابد من تشريعات تمنع عمل كبار موظفي الدولة المختصين باصدار القرارات المؤثرة علي التنافس التجاري من العمل بالقطاع الخاص إلا بعد انقضاء فترة كافية من تركهم الوظيفة العامة.
أما بخصوص  جمعيات المجتمع المدني ودورها في تعزيز النزاهة فان اهمية ذلك لا نحتاج الي نظر ولكن اول الواجبات هو تحسين التشريعات لتعزيز النزاهة داخل تلك الجمعيات نفسها . وضمان عدم استغلالها لغير النفع العام . وضمان عدم تسيسها وتحويلها الي احزاب بواجهات مدنية . بيد ان الدولة يجب ان تسمح بتشكيل جمعيات لمناهضة الفساد وتعزيز النزاهة في منظمات المجتمع المدني . لانها ان لم تفعل لحدث ما يحدث الآن بحيث تنشئ بعض الجهات السياسية منظمات غير معترف بها من قبل الدولة ولكنها تجد القبول لدي منظمات خارجية أخري لها تحيزاتها واجندتها الخاصه. ويكفي مراجعة ما تصدره بعض المنظمات الدولية بشأن السودان معتمداً علي تقارير مزورة بالكامل . وعند الاحتجاج تدعي تلك المنظمات بأنها لا تعتمد علي التقارير الرسمية ولا تجد جهات مستقلة لموافاتها بالتقارير . وليس ذلك لها بعذر ففي الشأن الاقتصادي هنالك العديد من المصادر المستقلة والنزيهة التي تأبي تلك المنظمات مراجعتها. بيد اننا لسنا بصدد ما يزوٌر حول السودان تحت اشراف مشروع "عدم الاستثمار في السودان" فلربما نتطرق لهذا في مقالات اخري ولكن المراد هنا أن تعمل الحكومة علي قيام منظمات مدنية مستقلة وتسعي الي تمكينها للحصول علي المعلومات وتتخذها ظهيراً مهماً في مناهضة الفساد.

منظومة النزاهة الوطنية.. خطوات لازمة 1-2


        الخطوة التي اتخذها السيد رئيس الجمهورية بانشاء مفوضية لمكافحة الفساد خطوة مهمة باتجاه التعامل مع قضية ذات حساسية وأهمية بالغة. ذلك ان موضوعة الفساد ظلت موضوعا للتسيس المفرط من كلا جانبي الموالاة والمعارضة. والمعارضون يستخدمون الاتهامات بالفساد والسكوت عليه وسيله للانتقاص من الفئة الحاكمة . فيما يذهب الموالون الي ما يشبه ادعاء العصمة من الفساد وشبهات الفساد. ومرجع تلك المواقف الي محاولة كل طرف للنيل سياسياً من الطرف. بيد أن عاقبة هذه الممارسة هي التعامل غير الجدي مع قضية ذات أهمية بالغة في ضمان كفاية النظم التنفيذية والاقتصادية والتشغيليه. وكل نقص في تلك النظم يؤثر تاثيراً بالغاً علي تسارع خطي الامة علي طريق التنمية والتقدم الاجتماعي.
الفساد والصلاح السياسي.. رؤية مقاصديه:-
العلماء والفقهاء في المدرسة الاسلامية يعرفون السياسه بانها سلطة ولي الأمة في التصرف بالسياسه لدرء المفاسد وجلب المصالح. فدرء المفاسد هو نصف السياسةونصفها الأخر هو جلب المصالح. ولكن الامر ليس كما يبدو وكأن هنالك دائرة للمفاسد ودائرة للمصالح . فكل فاسد قابل للاصلاح وكل صالح قابل للافساد. وما الفساد إلا تغير الحال من الصحة والسلامة والصواب. ولذلك فان المنهج السليم في درء المفاسد هو الحفاظ علي الصحة والسلامة والصواب بتدابير مستدامة لا يغفل عنها. فالمحافظة علي المجتمع ومؤسسات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص والافراد من الفساد مثل المحافظة علي الصحة العامة والخاصة بالتدابير الوقائية قبل التدابير العلاجية . ومقصد مكافحة الفساد هو الاحتفاظ بسلامة المجتمع ومؤسساته وقوتها وقدرتها علي الاداء الافضل والنمو المتسارع. لذلك فان المنهج السليم لمكافحة الفساد هو المنهج المقاصدي الذي ينصب اهدافاً للمجتمع وللدولة وللمؤسسات لتعزيز المناعة والكفاءة والقدرة من خلال اعتماد معايير قابلة للقياس للنزاهة والصلاح والفاعلية. لذلك فان الحاجة تمس ليس فحسب لانشاء مفوضية لمكافحة الفساد بل لاعتماد منظومة شاملة للنزاهة العامة. وقد ظل الامر هاجساً مقيماً لدي، وموضوعاً للنقاش والحوار متطاولاً بيني وبعض الاصدقاء والزملاء. فقد بذلت الدولة السودانية منذ الاستقلال جهوداً (لا يليق بنا التقليل منها،) لمكافحة الفساد المتمظهر في اختلاس الاموال العامة او سؤ استغلال الممتلكات والموجودات العامة او استغلال النفوذ. بيد أن تلك الجهود التي اخذت شكل تشريعات او مؤسسات او قرارات لم تندرج في يوم من الايام في اطار رؤية شاملة متكاملة لتعزيز النزاهة الوطنية وترقية الاداء العام. وما دام موضوع الفساد قد اصبح واحدة من اجندة السياسة الوطنية فلابد من مقاربة مسئوله للقضية. تترفع عن نهج الانتهازية السياسية الذي يسعي للنيل من الخصوم بأية وسيلة ممكنة. كما تتعالي عن نهج تنزية الذات والادعاء بان اداء السلطة الحاكمة يعلو علي الشبهات ويخلو من الفساد كما يخلو الثوب الابيض من الدنس.
ما الممقصود بالنزاهة العامة:-
          ويجدر بنا طلباً للوضوح أن نتعارف علي المعني المقصود بالنزاهة العامة. والتعريف الذي افضل استخدامة هو ترويج المفاهيم وتعزيز التدابير التي تؤدي للكفاية والنجاعة والفاعلية. وذلك من خلال اعتماد العلانية والشفافية والمسالة والمحاسبة الذاتية والمؤسسية . وقد يسال السائل كيف تؤثر هذه المبادئ علي استدامة المعافاة من الفساد. والاجابة هي أن اعتماد العلانية والشفافية والتنائي عن السرية والاخفاء في اداء العمل العام يعزز الرقابة الخارجية التي تناصر الضمير المهني للموظف العام. فالائم كما يقول الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام (هو ما حاك في الصدر وخشيت ان يطٌلع عليه الناس) فكل محجوب من الخطأ مصحوب بالخشية من علم العامة  يفتح باباً واسعاً من ابواب الفساد. ونقصد بالعلانية ان يعلن مقدماً عن الكيفية التي يدار بها الشان العام ليدخل ذلك في علم الكافة. ويُضمن في لوائح ومدونات للسلوك يحيط بها اصحاب المصلحة جميعاً. ونقصد بالشفافية ان يؤدي العمل العام في مشهد من طائفة واسعة من الناس يؤمن تواطؤها علي الفساد. وأن يعتمد نظام مستدام للمراقبة والمراجعة والتدقيق. ونقصد بالمساءلة ان لا يترك فرد اياً من كان ذلك الفرد إلا ويخضع لمساءلة مؤسسية واجتماعية وسياسية لم فعل ما فعل وترك ما ترك. طالما تولي امراً من امور الناس التي تصلح بها احوالهم او تسؤ. فكل صاحب تصرف في شانٍ عام او مال عام لابد له من التقرير لجهة ما عن كافة تصرفاته في الشان العام والمال العام بما يجلب المصالح ويدرأ المفاسد. واختيار النظام السياسي والنظام الاداري الذي يحقق المساءلة للجميع أمر في غاية الاهمية. والذي نراه الآن مما انفضح من سؤ تصرف الرؤساء والوزراء في البلدان التي اجتاحتها ثورة الغاضبين انما مرده الي فشل النظام المعتمد في جعل المساءلة جزءاً لا يتجزأ من التدابير السياسية. فحيث يجوز للرئيس ان يحوز علي اموال بحجة تصريف الامور عالية السريه ويعتمد في ذلك علي الثقة الممنوحة سياسياً للرئيس ينفتح احتمال كبير لسؤ التصرف. ولا يجوز لرئيس او وزير او مدير أن يدعي النزاهة المطلقة والبراءة من الميل لحظ النفس او المحاباة. لأن الادعاء نفسه دلالة علي القابلية لما هو موضع الانكار. وربما يقول القائل ان الشفافية المطلقة لها مضارها ولا مشاحة في ذلك. فلابد من السر في محل السر والجهر في كل الجهر ولكن الامر لابد له من ان يقدر بقدره. وان تتخذ المحاذير وان تعتمد الهياكل التي تضيق الي مدي بعيد تلك السلطات التي لا تخضع لمساءلة فاعلة.
          وأما المحاسبة فتأتي بعد المساءلة وثبوت الخطأ او الخطيئة. واذا كان المبدأ الاسلامي هو انه لا يجوز للحاكم ان يعفو عن الحق الخاص، فكل حق خاص له أؤلياؤه، فان المبدأ العام في الشان العام ينبغي ان يكون انه لا يجوز لسلطة عامة ان تعفو عن حق عام إلا وفق معايير مسبقة معتمدة. لأن التساهل في محاسبة المخطئين والمفسدين يفتح باباً واسعاً لترويج الخطا والفساد. ولا يجب إرجاء المحاسبة للمفسدين من أهل السياسة الي الموسم الانتخابي. فلابد من اعتماد نظم للمحاسبة تسمح باستعجال محاسبة الفساد الظاهر من خلال هيئات مستقلة أو من خلال البرلمان.  ولذلك فان تفعيل الدور البرلماني يغدو امراً مهماً للغاية فلابد من خضوع التنفيذيين جميعاً للبرلمان. ولذلك فان مراجعة انظمة الحكم لتعزيز الرقابة البرلمانية علي الاداء التنفيذي امر له مساس كبير بتعزيز منظومة النزاهة الوطنية. ولئن كان السودان قد اختار النظام الرئاسي ولا يزال في التقدير  انه النظام الادعي لتحقيق الاستقرار، فلابد من ايجاد معادلة تخضع الوزراء والتنفيذيين للرقابة البرلمانية بوجه فاعل.
الوظيفة العمومية خدمة للشعب:-
          ولكي يتحقق بعض ما ندعو اليه فلابد من احياء بعض المفاهيم التي سادت ثم بادت . وعلي رأسها ان ابعد ما يكون عن الجاه والاستعلاء هي الوظيفة العامة. فالوظيفة العامة ينبغي ان لا تسند لأولئك الذين يريدون  علواً في الارض أو يريدون فساداً. وليس هنالك مجلبة للفساد مثل الشعور يطغي علي الموظف العام يوحى اليه انه بوظيفته العامة رئيساً او وزيراً أو مديراً قد اضحي اعلي الناس مقاماً، او ارجح منهم عقلاً او اوفق تدبيراً. فالموظف العام خادم عام ويتوجب ان يعاد تعزيز هذا المعني وترويجه. ولن يتحقق ذلك بشعور يتأتي للموظف العام وحده بل لابد ان يؤسس لذلك في الدستور والقانون، وفي احساس العامة من الناس انهم هم اولياء الامور علي شأنهم العام. وانه لا يحق لرئيس او وزير او مدير ان يري له موقعاً فوق رؤوس العباد او في سدة عالية فوق كل البلاد.
وقد كان ذلك هو شان الحكام الراشدين ابي بكر وعمر وعثمان وعلي حتي أن عمراً رضي الله عنه كان يحمل روث أبل الصدقة حتي لا تُعجب نفس عمر عمراً. ولئن كانت تلك المقامات السامية ليست بميسورنا في زماننا هذا فلا يجب ان نستصعب التقرب الي مقامها باعاً او فرسخاً من خلال تأكيد ان الحاكم خادم الشعب وان اعوانه جميعاً خدامهم. ومن شان الخادم ان يُعان. ولذلك فان مشاركة المجتمع في ادارة الشأن العام ومساءلة الخدام ومراقبة ادائهم ثقافة عامة يجب ان تسود، وممارسة عامة يتوجب ان يؤسس لها بالدستور والقانون والعرف المستقر  بين العامة والخاصة.

-          يتبع   -