الطريق الي الجمهورية الثانية 1-2
دأمين حسن عمر
يشهد السودان بزوغ مرحلة جديدة من تاريخه السياسي. يأمل السودانيون ان تكون مدخلهم لفترة طويلة من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي المضطرد. ولكي يتحقق ذلك فلابد ميثاق اجتماعى جديد يؤسس عليه نظام دستوري وسياسي جديد يفتح الطريق الي الجمهورية الثانية.
العهد الاجتماعي الجديد:
لا تؤسس السياسة الا علي تفاهمات واعراف راسخة فى المجتمع تنبثق من التجربة الاجتماعية للشعب او من معتقداته الدينية وامتثالاته العرفيه . وقد شهد السودان فى العقود الاخيرة تهتكاً في النسيج الاجتماعي ونزاعات قبلية وتمردات عسكرية وسياسية .واصبحت كثير من الوشائج التي شكلت اللحمة بين الجماعات السياسية جزءاً من الماضي. اذ ضعفت الطائفية الدينية التي شكلت في الماضي الرابط الاساسي للاجتماع السياسي . وتفككت الايدولوجيا بوصفها الآصرة بين الجماعات السياسة المتعلمة. واضطربت الحالة الفكرية في البلاد بسبب المراجعات العميقة للفكر السياسي السائد . فإنتشار التعليم والهجرة ووسائل الاعلام الحديثة لم يجعل الجمع بين الفكرة الطائفية و اللبرالية السياسية ممكنا . فتقسمت الطائفةالي مجموعات متفرقة داخل الحزب الواحد او خارجه بفعل غزو الافكار الجديدة للحزب . وبفعل سعي البعض لتوظيف الراوابط القبلية والجهوية لتعزيز مكانتهم الحزبية . وبسبب النزاعات العشائرية داخل البيت الطائفي المتوسع بفعل النمو الديموغرافي. أما الاحزاب التي نشأت بالغزو الفكري الايدولوجي فتأثرت هي الاخري بأفول الابدولوجيا . بعد أن حلت محلها ما يسمي بالريل بولتيك اي براجماتية اليوم باليوم . وخضعت الافكار السائدة لمراجعات من قبل بعض النخب سواء كانت قومية او اشتراكية او اسلامية . بيد انه رغم تلك المراجعات المهمة فقد غاب الحوار الجدي بين الفرقاء . والذي كان يمكن له ان يؤسس لقواعد فكرية مشتركة للمجتمع السياسي. ومع بروز اثار التفتح والسيولة الاجتماعية بفعل التعليم والهجرة والاعلام وانفجار ثورة التطلعات نحو اوضاع افضل، ظهرت حالة من تفكك المجتمع السياسي الي احزاب متعصبة او جماعات متمردة او تكتلات قبلية ذات اطماع سياسية، وظهرت اثار ذلك في سيادة شعور بالتأزم السياسي بالبلاد. لذلك يتوجب أن يؤسس لقيام نظام دستوري جديد بمراجعات جديده للتعاهد الاجتماعي. الامر الذي بات البعض يسميه (رتق النسيج الاجتماعي) ونحن هنا لا ندعو لرتق النسيج الاجتماعي فلا فائدة من استخدام هذه المقاربة التشبيهية في هذا المقام. فالمجتمع ليس ثوباً عتيقا ً، ولكنه كيان عضوي . وكل كيان عضوي قادر علي التخلص من الخلايا القديمة الميته واحياء خلايا جديدة تمنحه القدرة علي البقاء والنمو. ولكن في الشأن الاجتماعي الانساني لا يحدث ذلك بصورة تلقائية كأية واقعة فيسيولوجية. ولكنه يتطلب عزماً وارادة فردية وجماعية في آنٍ واحد. واول المتطلبات لعهد اجتماعي جديد هو القدرة علي قراءة الواقع الماثل بقدر متنامِ من التجرد والموضوعية. بحيث يتمكن الجميع من البلوغ إلي تشخيص متوافق عليه للحالة الاجتماعية، مكامن قوتها وعناصر ضعفها. ولاشك ان ذلك يستلزم الحوار الصادق والموضوعي بين كل الفاعلين في المجتمع . وبخاصة النخبة الناشطة في الشأن العام والسياسيين علي وجه أخص. لذلك فأن الطريق للتحولات الدستورية والسياسية يجب ان يمر اولاً علي منتديات الحوار حول اوضاع البلاد الاجتماعية والثقافية ، ولابد للحوار أن يبدأ من مربع المسكوت عنه ليبلغ بنا الي الاقرار بما يثير التوجس والشكوك بين الجماعات الاهلية والسياسية والحزبية بحيث يقع التوافق علي ما يلزم لازالة اسباب المباعدة والمجانبة . فلا يمكن للحياة السياسية فى مجتمع سياسي مالك لأمره ان تقوم دون تأليف العقول والقلوب علي مرادات ومقاصد يراها كل الفرقاء مكسباً يستحق جهد المسعي اليه.
ولذلك فقضايا كثيرة لا بد ان تكون حاضرة للمداولة وعلي راسها قضايا الجهوية والقبلية والعنصرية وقضايا التمييز علي اساس الجنس وهرم وشيخوخة النظام السياسي وضعف دور الاجيال الجديدة في اغنائه بالطاقات والافكار الجديدة . وقضايا التعليم ودوره في التنشئة الوطنية والنهضة الاقتصادية . وقضايا التقاسم العادل للموارد لا عبر الفدرالية الاقتصادية فحسب بل وعلي اساس رأسى اجتماعى يحول دون التغير السريع للمجتمع السوداني الي مجتمع رأس مالي.
الميثاق السياسي الجديد
وبناء علي معطيات ذلك الحوار الكثيف والعميق يمكن التوصل للصيغ الدستورية الاكثر مناسبة للوقت وللمحل. ويمثل القسم الاول من الحوار التوطئة للخلاصات التي سوف تبني عليها الخيارات الدستورية والأطر السياسية الملائمة لوضع البلاد علي عتبة تطور جديد سريع ومتنام او ببعض لغة الاستراتيجية القومية متوحد متطور ومتقدم. وللوصول الي ذلك المقام لابد من الكثير من التجرد وانكار التحيزات والاطماع الذاتية.وقديستعسر البعض ذلك بيد اني اراه بالامكان . ويمكن للمؤتمر الوطني ان يقود تلك المبادرة بقليل من مفارقة الحذر وبكثير من التحلي بالثقة بالذات. والمؤتمر الوطني خرج من الانتخابات برصيد مقدر. وينبغي أن ندرك ان جزءاً مقدراً من ذلك الرصيد المقدر كان مسبباً بحالة الالتباس والارتباك التي اصابت الاحزاب والقوي السياسية . التي كان لديها بعض الفرص لمنافسة المؤتمر الوطني.و لا ننكر ان جزءاً مقدراً منه كان نتاجاً لكسب المؤتمر الوطني السياسي وبعض انجازاته علي مستوي الاداء التنفيذي. وفي اعتقادي ان المؤتمر الوطني يمكن ان يقود الحوار في النظم الدستورية من خلال طرح جملة من الافكار علي صعيد الفكر الاجتماعي. فلابد من الاعتراف انه ورغم انفصال الجنوب فان الصفة الملازمة للمجتمع السوداني هي تنوعه العرقي وتباعده الجهوي واختلاف اعرافه الاجتماعية والثقافية وضعف الانتماء فيه لهوية وطنية واضحة المعالم. ومثلما يصح ذلك فان حضور الفكرة الاسلامية في المجتمع السوداني حضور قوي ومتميز مقارناً ببلدان اخري كثيرة حولنا . وهنالك تسليم شعبي واسع بأهمية تأسيس المجتمع السياسي علي امتثال للشريعة الاسلامية. بيد ان طرح الامتثال للشريعة الاسلامية ينبغي ان يرتبط بالتزام محدد وصريح وقوي بالالتزام بمجتمع سياسي مدني . لا تؤسس فيه الحقوق والواجبات علي الانتماء الديني والمذهبي او العرقي او الجنسي او الجهوي وانما تؤسس علي المواطنة . وعلي القاعدة النبوية الرائعة الساطعة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" . فالناس في الحقوق والواجبات سواسية كأسنان المشط. ولا يجب ان يؤسس الدستور لأي شكل من اشكال التمييز علي اساس الدين او المذهب او اللون او الجنس او العرق او الجهة الجغرافية. وهنا يتوجب ان يفهم من اخطأه الفهم ان هنالك فرقاً هائلاً بين العلمانية التي هي ايدولوجيا تقوم علي فكرة التمييز ضد الدين واقصاء الدين ومنعه من ان يكون مؤثراً في الشأن العام وبين الدولة المدنية. فالكيان السياسي يمكن ان يكون مدنياً واسلامياً في آن واحد. لأن مدنية الدولة تقوم علي ارادة المواطنين الجماعية . وعلي احترام المبدأ الذي يقضي في الامور برأي الأغلبية ولكن دون إفتيئات علي حقوق الاقلية . فالدولة المدنية هي دولة المواطنين لا دولة العشائر ولا المذاهب. والمؤتمر الوطني مدعو لان يدعو لذلك بصورة واضحة لا لبس فيها. كذلك يتوجب علي المؤتمر الوطني ان يدرك الفروق بين تطور المجتمع الذكوري ومجتمع النساء في السودان فلا تزال تلك المفارقة الظالمة قائمة . ولا يزال المجتمع محتقناً بكثير من صور التمييز ضد النساء. ولابد للموتمر الوطني ان يكون رأئداً في طرح قضايا تمكين المرأة. وكذلك قضايا تمكين الشباب فلايزال المجتمع لا يفسح فرصاً واسعة في القيادة للشباب ويتفاقم ذلك في الأطر السياسية بصورة أحالت المشهد السياسي في السودان الي صورة المشهد السياسي السوفياتى.
إقتصاد السوق لا الرأسمالية:
من ناحية اخري وبسبب تبني الدولة لفكرة اقتصاد السوق وهي فكرة اثبتت نجاعتها وملاءمتها لاصول الفكر الاقتصادي الاسلامي إلا ان طرح الفكرة جاء بصورة جزئية لا تضع التحوطات دون انزلاق المجتمع الي ان يكون المال دولة بين الاغنياء في دولة رأسمالية قاسية. ولذلك لابد من مراجعات دقيقة وعميقة للافكار الاقتصادية المقارنة لفكرة اقتصاد السوق بحيث لاتغفل الدولة عن دورها التخطيطي للاقتصاد الكلي بحيث يتحرك في إطار استراتيجية تسعي لتوسيع دائرة التشغيل في الاقتصاد. كما تتدخل بالمشروعات وبالسياسات لتمكين الطبقات الاضعف من العيش الكريم. أن الاندفاع في سياسة التحرير الاقتصادي دون الاحتفاظ بادوات فاعلة في يد الدولة للتدخل لصالح الفئات الاضعف أمر يحتاج الي مراجعة. كذلك فلا يجب السماح بموت القطاع الاهلي التعاوني دون بذل المساعي لتفعيله وتوسيع أطره ودفعه باعمال التمييز الايجابي لصالحه. كذلك يتوجب علي الدوله ان تعمل من خلال السياسات ذات الوجوه العملية الي تشجيع الاعمال التي تأخذ صورة الشركات العامة التي يساهم فيها الجمع الغفير من المستثمرين الوطنيين . دون أن يكون ذلك علي حساب جذب روؤس الاموال من الاستثمار الاجنبي . فليس هنالك موضع تناقض بين هذا وذاك. فشركات المساهمة العامة تدخل قطاعا واسعاً من الطبقة المتوسطة الى دائرة الاعمال المربحة. وتؤدي بذلك الي توسيع الطبقة المتوسطة والحوؤل دون تكدس المال في اعلي الهرم الاقتصادي.
نواصل،،،
الطريق للجمهورية الثانية 2-2
تحدثنا في المقال السابق عن الحوار الاجتماعي والثقافي ودوره في تهيئة المناخ لحوار سياسي يجئ سابقا للترتيبات الدستورية التي سوف تنظم المرحلة السياسية المقبلة للخروج من حالة الشعور بالتأزم السياسي التي تعتري الساحة السياسية السودانية والناجمة عن ازدحام التحولات الفكرية والشعورية التي تعتري ابناء الوطن وعجز الهياكل السياسية والفكر السياسي السائد عن فتح المسارات الملائمة للافكار الجديدة والاتجاهات الجديدة لتقود الوطن نحو تدبير سياسي جديد للاوضاع السياسية.
الاحتباس السياسي...لماذا؟
حالة الاحتباس الراهنة مرجعها الي انقسام في النخبة السياسية الي فرقتين الاولي والاكبر يعتمل في اوساطها حراك كبير وتمور بالافكار والمبادرات، ولكنها لا تجد لتلك منفذاً الي الفاعليات التي تقضي الأمور بواسطتها وعبر مواردها وآلياتها. ومجموعة أخري اصغر حجماً تمثل الناشطين في الاحزاب السياسية القديمة والجديدة. وهي التي تنسب اليها الافعال والتصرفات في الساحة السياسية. وباياديها يصاغ المشهد السياسي في تجلياته السياسية والتنفيذية. ولكن هذه المجموعة الاخري نفسها تعاني حالة الانقسام المتتالي فما ان يخفت الحديث عن انقسام في هذه الجماعة السياسية الا ويتعالي الحديث مره اخري عن انقسام جديد في ذات الجماعة او في جماعة سياسية اخري. وهذه الانقسامات لا تتولد عن افكار جديدةأو تولد مواقف جديدة، بل هي اقرب الي الالغام القديمة المنسية التي تنفجر في وجوه الناس علي حين غرة. وكأنها القدر المحتوم الذي ما منه فرار. وأهم اسباب هذه الحالة هي شيخوخة الوضع السياسي وضعف مناعته الناجمة عن الهرم والوهن. فالاحزاب السياسية التقليدية لا تزال تتغذي بالفكر الذي ظلت تستهلكه منذ الخمسينيات الا من بعض العبارات المصنوعة او الصياغات الطريفه. ولكنه يبقي كما هو لان دهافنته مصابون برهاب التغيير. ولأن زعماؤه هم ذات الزعماء ، من كان رئيساً للوزراء قبل ما يداني نصف قرن من الزمان يريد ان يعيد عجلة التاريخ كما كانت. ليمتطى سدة القيادة من جديد. ومن كان الآمر والناهي للوزراء وللوجهاء يريد أن يستديم مقعد الامرة والنفوذ. وليس شأن الاحزاب التي تسمي جديده بافضل من شأن تلك التي الموسومة تقليدية. فلا يزال قادتها والناطقون بفكرها وبأسمها هم ذات الاسماء وذات الاشخاص. وأخر مطالعاتهم في مراجع الفكر وقواميس اللغة السياسية هي مراجع ستينيات القرن الماضي. وكيف يمكن ان تتولد الافكار الجديدة والقيادات الجديدة من وضع عجوز عقيم. ولئن قيل قديماً آفة الاخبار رواتها فآفة السياسة في بلادنا زعماؤها. ولكنهم لا يشعرون. فهم الذين يكتمون انفاس الساحة السياسية. وهم الذين يعيدون انتاج الأزمة مرة بعد الاخري. ولذلك فلئن كانت الساحات والطرقات قد أمتلأت بالشباب اليافع ينادي الرؤساء الشيوخ أن أرحلوا، فلابد لمجامع الاحزاب ودورها ان تشهد تلك الصحوة الشبابية ليقول شباب الاحزاب والقوي السياسية لشيوخها ان ارحلوا مشكورين غير مأزورين.
التجديد السياسي مطلوب الساعة :
أن الاوضاع السياسية لن تتغير نحو الافضل إلا بتجديد الافكار وتوليد القيادات. ولن يحدث ذلك الا بالطريقة العضوية التي تتجدد بها الخلايا وتنمو بها الاجسام. إلا وهي ازاحة الواهي والواهن واستبدالة بالفتي العتي. وهذا الدرس وعته احزاب كثيرة في ارجاء مختلفة من العالم. فدولة الصين العظمي بمساحتها وسكانها ومواردها فهمت الدرس السوفياتي. ولذلك وضعت نظاماً راتباً لتنحي الكبار للصغار عبر متوالية للقيادة، تدور حتي تبلغ منتهاها ليترجل الزعيم لمن يأتي من بعده، فلا يشيخ النظام بشيخوخه الزعماء، واثيوبيا التي تضع كتفها الأيمن علي كتف السودان الأيسر فعلت مثل ذلك، فتنحي جيل الثورة لجيل أحسن الثوار اعداده لادارة الدولة لئلا لا تشيخ الثورة ولا يتعطل دولاب الدولة المتسارعة حركته الي الامام. بيد ان تجديد الاشخاص وحده لايكفي. فلابد من تجديد الافكار. ولن يصبح تجديد الافكار بالمتناول ما لم تهيئ الظروف للتداول الحر للاراء والتبادل الثر للافكار. والاجابة لمن يشتكي من ضعف الحركة الفكرية في ساحاتنا السياسية عليه ان يعلم أن العلة وراء ذلك هو حالة المقاومة السلبية للاراء المغايرة والافكار المخالفة، وحالة الممانعة للنقد والمراجعة. فاذا تغيرت تلك الحالة ونشطت المساجلات والمناظرات نشطت حركة المطالعة والمثاقفه، ثم ما تلبث ان تتمظهر في رؤي جديدة ترفد السياسات والتشريعات والقرارات بالنجاعة والفاعلية، والدفع التقدمي الذي يأبي الركون الي المسلمات او يخشى مواجهة التحديات.
دستور جديد لمرحلة جديدة :
أول سمات الدستور الجديد هو فتح الابواب والنوافذ. وتسهيل الولوج والدخول الي النظام السياسي. بحيث يتزايد عدد الناشطين في التشكيلات السياسية والاجهزة التنفيذية الممارسة للسلطة. وقد يقتضي ذلك مراجعة النظام الفيدرالي. ليس لاستحداث مستوي جديد، يطالب به دعاة تركيز السلطة من افراد النخبة الطامعه، الذين يدعون لانشاء اقاليم من فوق الولايات. بل المطلوب هو توسيع قاعدة هرم السلطة. وذلك من خلال اعتماد المستوي المحلي باعتباره مستوي دستوري من مستويات السلطة. بحيث تقسم السلطات الممنوحه للولايات بينها والمحليات التابعة لها، مع تحديد عدد المحليات، كما ان عدد الولايات محدد بالدستور وليس هذا الترتيب بدعة في الدساتير. فالدستور السويسري يعطي السلطات الممنوحة للكميون أكبر من السلطات الممنوحة "للكانتون" الولاية. وتزيد السلطات الممنوحة للولاية علي تلك الممنوحة للمستوي المركزي حتي تقتصر سلطات الاخير علي التخطيط والتنسيق والدفاع والعلاقات الخارجية والسلطات المتداخلة بين الولايات (interstate powers). وهذا الترتيب هو التحقيق الامثل للديمقراطية القاعدية. بحيث يتسع الي مدي بعيد عدد المشاركين في العملية السياسية علي المستوي القاعدي. وكذلك يتسع عدد الممسكين بسلطة القرار علي المستوي المحلي. ولا تكون سلطتهم شكلية بل سلطة حقيقية محمية بالدستور. ومدعومة من خلال ترتيب لقسمة الموارد بين المستوي الولائي والمستوي المحلي، وهذا الترتيب يجبر الاحزاب السياسية للاهتمام بالمستوي القاعدي من نشاطها، ذلك ان الاحزاب تنجذب الي حيث تكون السلطة كما ينجذب بعض آكلات اللحوم الي عظمتها. وهذا يعني ان كل قرار يكون موضع انفاذه هو المحلية يتوجب ان يكون مكان اصداره هو المحلية نفسها. وبذلك تمتلك القواعد قرارها وتتحمل مسئولياتها. مما يتيح تنافساً علي النهضة والنمو المتسارع بين المحليات. اما الولايات فيتوجب ان تعطي اهتماماً اكبر لقضايا التنمية الاقتصادية والبشرية. وبخاصة التعليم والتدريب والتشغيل والتوسع في التنمية الزراعية والصناعية. وفتح افاق الاعمال والتجارة الداخلية بين الولايات، والتجارة الخارجية للتصدير بينما تولي الحكومة المركزية اهتمامها للتخطيط الكلي للاقتصاد ولترسيخ البنيات التحتية ولادارة الاقتصاد القومي وللتخطيط للتعليم واعداد الكوادر البشرية. ولاعمار علاقات السودان الخارجية والاضطلاع باعمال السيادة كاملة غير منقوصة.
النظام الرئاسي الجديد :
من ناحية اخري فلابد من مراجعة تركيبة السلطة علي المستوي القومي. بحيث يتحقق الانفتاح وتتسع دائرة المشاركين في اتخاذ القرار. ويصار الي ترتيب جديد يوسع من فرص الرقابة علي القرار. والوضوح والشفافية قبل اعتماد السياسات وبعد اصدارها. وتعزيز قدرة المؤسسات الرقابية علي المساءلة وبناء منظومة كاملة لتعزيز النزاهة علي المستوي القومي. ولاشك ان في العالم تجارب يمكن الاستفادة منها في هذا الشان. فالنظام الرئاسي المعتمد في السودان الآن رغم ايجابياته في حماية الدولة من التقلبات كثيرة الحدوث في النظام البرلماني، والتي تحول دون استقرار الحكومات لاعداد سياساتها بله عن انفاذ تلك السياسات. فان من اكبر عيوبه هو تركيز السلطة في ايادي قليلة. وهي ايادي الرئيس وبعض الخاصة من مساعديه ومستشاريه. كذلك فان النقص الاكبر في هذا النظام الي جانب ما ذكر آنفاً هو تأخير مساءلة السلطة الي الموسم الانتخابي. فقدرة البرلمان علي مساءلة الحكومة تظل منقوصه الي مدي بعيد طالما لا يمكن للرئيس ان يمثل امام البرلمان. ولذلك ربما ان افضل الخيارات هو الأنموذج المتوسط بين النظامين الرئاسي والبرلماني (برلماسي) وذلك علي الطريقة الديجولية في الجمهورية الفرنسية الخامسة. التي قسمت السلطة بين رئيس ينتخبه الشعب ويكون مساءلاً امام الشعب، وبين رئيس وزراء او وزير اول يختاره الحزب صاحب الاغلبية او الاكثرية في البرلمان، ويكون مساءلاً في البرلمان. وتكون قسمة السلطة بحيث تصير الامورالتخطيطية والتنفيذية وادارة الاقتصاد من شان مجلس الوزراء بينما تكون ادارة العلاقات الخارجية وأمور الدفاع وأعمال السيادة من شأن رئيس الجمهورية. وبذلك تتسع فرص المساءلة فيما يلي شوؤن الناس عبر خضوع الحكومة للبرلمان. كما يتسع عدد المشاركين في اتخاذ القرار بتنشيط دور الاحزاب وجعل السلطة شركة بين الرئيس ومجلس الوزراء. بيد ان التوسيع لاتخاذ القرار لا يكفي. فلابد من المزيد وذلك من خلال بنود في الدستور تحدد صلاحيات الخدمة المدنية، بحيث توفر لها الحماية من التدخلات الحزبية التي لا تحقق المصلحة العامة بقدر تحقيقها لمصالح حزبية. فلابد من التمييز ولا اقول الفصل بين سلطات اشراف الوزير علي عمل الخدمة المدنية لانفاذ سياسته وبين سلطة الوكيل ومن دونه ممن هم في الخدمة المدنية التي مرجعها الي المكنة العلمية والخبرة الفنية. والحديث الكثير عن اصلاح الخدمة المدنية لابد له ان يتبع بالعمل لحماية الخدمة المدينة من تسخيرها للاغراض الحزبية او اتخاذها وسيلة في التنافس الحزبي.
النظام الانتخابي الجديد :
ولئن كانت الفكرة الرئيسة في هذا المقال هى تحقيق الانفتاح السياسي، فان مراجعة النظام الانتخابي هي واحدة من وسائل تحقيق ذلك. ويتحقق انفتاح النظام الانتخابي من خلال السماح للقوي السياسية الجديدة وللاجيال الجديدة بالولوج الي الساحة السياسية. با زالة الموانع التي لا تسمح بالمنافسة الحرة للنساء والشباب علي المستويات كافه، ولعل المزج بيم نظام القوائم ونظام الدائرة الانتخابية الجغرافية فكرة جيدة، ولكن يجب ادخال المزيد من الاصلاحات بحيث تكون نسبة 50% للقوائم ونسبة 50% للدوائر الجغرافية. وكذلك تخصيص 50% من القائمة للنساء وتخصيص 50% من القائمة العامة والنسوية للشباب دون الاربعين عاماً. وتقليل النسبة المطلوبة لاعتماد القائمة الي 3% بدلاً من 5% وجعل التنافس علي القوائم في دائرة قومية واحده. والسماح بمشاركة المغتربين في الترشيح والاقتراع للقائمة. وبذلك يتحقق توسع كبير في المشاركة السياسية والحزبية. وتوسيع قاعدة المرشحين والمقترعين وفتح فرص جديدة اكثر اتساعاً للمراة والشباب بصورة أخص. اما علي مستوي الولايات فتكون القوائم علي مستوي دائرة ولائية واحدة. بينما لا ضرورة لاعمال نظام القوائم علي المستوي المحلي، فعلي ذلك المستوي من المهم تقليل دور الاحزاب وأثرها والتركيز علي دور الكوادر والقدرات لأن هذا المستوي خدمي يستحسن توفير الحماية له من التنافس الحزبي وتشجيع القوي السياسية علي التعاون علي خدمة الشعب عبر صيغ توافقية لا تنافسية.
أنتهي،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق