الخطوة التي اتخذها السيد رئيس الجمهورية بانشاء مفوضية لمكافحة الفساد خطوة مهمة باتجاه التعامل مع قضية ذات حساسية وأهمية بالغة. ذلك ان موضوعة الفساد ظلت موضوعا للتسيس المفرط من كلا جانبي الموالاة والمعارضة. والمعارضون يستخدمون الاتهامات بالفساد والسكوت عليه وسيله للانتقاص من الفئة الحاكمة . فيما يذهب الموالون الي ما يشبه ادعاء العصمة من الفساد وشبهات الفساد. ومرجع تلك المواقف الي محاولة كل طرف للنيل سياسياً من الطرف. بيد أن عاقبة هذه الممارسة هي التعامل غير الجدي مع قضية ذات أهمية بالغة في ضمان كفاية النظم التنفيذية والاقتصادية والتشغيليه. وكل نقص في تلك النظم يؤثر تاثيراً بالغاً علي تسارع خطي الامة علي طريق التنمية والتقدم الاجتماعي.
الفساد والصلاح السياسي.. رؤية مقاصديه:-
العلماء والفقهاء في المدرسة الاسلامية يعرفون السياسه بانها سلطة ولي الأمة في التصرف بالسياسه لدرء المفاسد وجلب المصالح. فدرء المفاسد هو نصف السياسةونصفها الأخر هو جلب المصالح. ولكن الامر ليس كما يبدو وكأن هنالك دائرة للمفاسد ودائرة للمصالح . فكل فاسد قابل للاصلاح وكل صالح قابل للافساد. وما الفساد إلا تغير الحال من الصحة والسلامة والصواب. ولذلك فان المنهج السليم في درء المفاسد هو الحفاظ علي الصحة والسلامة والصواب بتدابير مستدامة لا يغفل عنها. فالمحافظة علي المجتمع ومؤسسات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص والافراد من الفساد مثل المحافظة علي الصحة العامة والخاصة بالتدابير الوقائية قبل التدابير العلاجية . ومقصد مكافحة الفساد هو الاحتفاظ بسلامة المجتمع ومؤسساته وقوتها وقدرتها علي الاداء الافضل والنمو المتسارع. لذلك فان المنهج السليم لمكافحة الفساد هو المنهج المقاصدي الذي ينصب اهدافاً للمجتمع وللدولة وللمؤسسات لتعزيز المناعة والكفاءة والقدرة من خلال اعتماد معايير قابلة للقياس للنزاهة والصلاح والفاعلية. لذلك فان الحاجة تمس ليس فحسب لانشاء مفوضية لمكافحة الفساد بل لاعتماد منظومة شاملة للنزاهة العامة. وقد ظل الامر هاجساً مقيماً لدي، وموضوعاً للنقاش والحوار متطاولاً بيني وبعض الاصدقاء والزملاء. فقد بذلت الدولة السودانية منذ الاستقلال جهوداً (لا يليق بنا التقليل منها،) لمكافحة الفساد المتمظهر في اختلاس الاموال العامة او سؤ استغلال الممتلكات والموجودات العامة او استغلال النفوذ. بيد أن تلك الجهود التي اخذت شكل تشريعات او مؤسسات او قرارات لم تندرج في يوم من الايام في اطار رؤية شاملة متكاملة لتعزيز النزاهة الوطنية وترقية الاداء العام. وما دام موضوع الفساد قد اصبح واحدة من اجندة السياسة الوطنية فلابد من مقاربة مسئوله للقضية. تترفع عن نهج الانتهازية السياسية الذي يسعي للنيل من الخصوم بأية وسيلة ممكنة. كما تتعالي عن نهج تنزية الذات والادعاء بان اداء السلطة الحاكمة يعلو علي الشبهات ويخلو من الفساد كما يخلو الثوب الابيض من الدنس.
ما الممقصود بالنزاهة العامة:-
ويجدر بنا طلباً للوضوح أن نتعارف علي المعني المقصود بالنزاهة العامة. والتعريف الذي افضل استخدامة هو ترويج المفاهيم وتعزيز التدابير التي تؤدي للكفاية والنجاعة والفاعلية. وذلك من خلال اعتماد العلانية والشفافية والمسالة والمحاسبة الذاتية والمؤسسية . وقد يسال السائل كيف تؤثر هذه المبادئ علي استدامة المعافاة من الفساد. والاجابة هي أن اعتماد العلانية والشفافية والتنائي عن السرية والاخفاء في اداء العمل العام يعزز الرقابة الخارجية التي تناصر الضمير المهني للموظف العام. فالائم كما يقول الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام (هو ما حاك في الصدر وخشيت ان يطٌلع عليه الناس) فكل محجوب من الخطأ مصحوب بالخشية من علم العامة يفتح باباً واسعاً من ابواب الفساد. ونقصد بالعلانية ان يعلن مقدماً عن الكيفية التي يدار بها الشان العام ليدخل ذلك في علم الكافة. ويُضمن في لوائح ومدونات للسلوك يحيط بها اصحاب المصلحة جميعاً. ونقصد بالشفافية ان يؤدي العمل العام في مشهد من طائفة واسعة من الناس يؤمن تواطؤها علي الفساد. وأن يعتمد نظام مستدام للمراقبة والمراجعة والتدقيق. ونقصد بالمساءلة ان لا يترك فرد اياً من كان ذلك الفرد إلا ويخضع لمساءلة مؤسسية واجتماعية وسياسية لم فعل ما فعل وترك ما ترك. طالما تولي امراً من امور الناس التي تصلح بها احوالهم او تسؤ. فكل صاحب تصرف في شانٍ عام او مال عام لابد له من التقرير لجهة ما عن كافة تصرفاته في الشان العام والمال العام بما يجلب المصالح ويدرأ المفاسد. واختيار النظام السياسي والنظام الاداري الذي يحقق المساءلة للجميع أمر في غاية الاهمية. والذي نراه الآن مما انفضح من سؤ تصرف الرؤساء والوزراء في البلدان التي اجتاحتها ثورة الغاضبين انما مرده الي فشل النظام المعتمد في جعل المساءلة جزءاً لا يتجزأ من التدابير السياسية. فحيث يجوز للرئيس ان يحوز علي اموال بحجة تصريف الامور عالية السريه ويعتمد في ذلك علي الثقة الممنوحة سياسياً للرئيس ينفتح احتمال كبير لسؤ التصرف. ولا يجوز لرئيس او وزير او مدير أن يدعي النزاهة المطلقة والبراءة من الميل لحظ النفس او المحاباة. لأن الادعاء نفسه دلالة علي القابلية لما هو موضع الانكار. وربما يقول القائل ان الشفافية المطلقة لها مضارها ولا مشاحة في ذلك. فلابد من السر في محل السر والجهر في كل الجهر ولكن الامر لابد له من ان يقدر بقدره. وان تتخذ المحاذير وان تعتمد الهياكل التي تضيق الي مدي بعيد تلك السلطات التي لا تخضع لمساءلة فاعلة.
وأما المحاسبة فتأتي بعد المساءلة وثبوت الخطأ او الخطيئة. واذا كان المبدأ الاسلامي هو انه لا يجوز للحاكم ان يعفو عن الحق الخاص، فكل حق خاص له أؤلياؤه، فان المبدأ العام في الشان العام ينبغي ان يكون انه لا يجوز لسلطة عامة ان تعفو عن حق عام إلا وفق معايير مسبقة معتمدة. لأن التساهل في محاسبة المخطئين والمفسدين يفتح باباً واسعاً لترويج الخطا والفساد. ولا يجب إرجاء المحاسبة للمفسدين من أهل السياسة الي الموسم الانتخابي. فلابد من اعتماد نظم للمحاسبة تسمح باستعجال محاسبة الفساد الظاهر من خلال هيئات مستقلة أو من خلال البرلمان. ولذلك فان تفعيل الدور البرلماني يغدو امراً مهماً للغاية فلابد من خضوع التنفيذيين جميعاً للبرلمان. ولذلك فان مراجعة انظمة الحكم لتعزيز الرقابة البرلمانية علي الاداء التنفيذي امر له مساس كبير بتعزيز منظومة النزاهة الوطنية. ولئن كان السودان قد اختار النظام الرئاسي ولا يزال في التقدير انه النظام الادعي لتحقيق الاستقرار، فلابد من ايجاد معادلة تخضع الوزراء والتنفيذيين للرقابة البرلمانية بوجه فاعل.
الوظيفة العمومية خدمة للشعب:-
ولكي يتحقق بعض ما ندعو اليه فلابد من احياء بعض المفاهيم التي سادت ثم بادت . وعلي رأسها ان ابعد ما يكون عن الجاه والاستعلاء هي الوظيفة العامة. فالوظيفة العامة ينبغي ان لا تسند لأولئك الذين يريدون علواً في الارض أو يريدون فساداً. وليس هنالك مجلبة للفساد مثل الشعور يطغي علي الموظف العام يوحى اليه انه بوظيفته العامة رئيساً او وزيراً أو مديراً قد اضحي اعلي الناس مقاماً، او ارجح منهم عقلاً او اوفق تدبيراً. فالموظف العام خادم عام ويتوجب ان يعاد تعزيز هذا المعني وترويجه. ولن يتحقق ذلك بشعور يتأتي للموظف العام وحده بل لابد ان يؤسس لذلك في الدستور والقانون، وفي احساس العامة من الناس انهم هم اولياء الامور علي شأنهم العام. وانه لا يحق لرئيس او وزير او مدير ان يري له موقعاً فوق رؤوس العباد او في سدة عالية فوق كل البلاد.
وقد كان ذلك هو شان الحكام الراشدين ابي بكر وعمر وعثمان وعلي حتي أن عمراً رضي الله عنه كان يحمل روث أبل الصدقة حتي لا تُعجب نفس عمر عمراً. ولئن كانت تلك المقامات السامية ليست بميسورنا في زماننا هذا فلا يجب ان نستصعب التقرب الي مقامها باعاً او فرسخاً من خلال تأكيد ان الحاكم خادم الشعب وان اعوانه جميعاً خدامهم. ومن شان الخادم ان يُعان. ولذلك فان مشاركة المجتمع في ادارة الشأن العام ومساءلة الخدام ومراقبة ادائهم ثقافة عامة يجب ان تسود، وممارسة عامة يتوجب ان يؤسس لها بالدستور والقانون والعرف المستقر بين العامة والخاصة.
- يتبع -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق