الاثنين، 18 أبريل 2011

الشريعة .. والمشروع الوطني 2 - 3


       أشرنا في المقال السابق الي المقصود بمفردة الشريعة وأتصال الشريعة بالسياسة. ولئن كانت السياسة في مقصودها الاسلامي هي الرعاية والتربية والتدبير وتحصيل المصالح ودرء المفاسد فإن الشريعة هي الاستمداد المستمر من الهدي الالهي لتحقيق عمران الأرض وتحسين الحياة وتربية النفوس علي اصول العدل والانصاف والاحسان.
الشريعة والمشروع الحضاري:-
        وتحسين الحياة الذي هو مطلوب الشريعة الأول هو ثمرة الحضارة. فالتحضر هو القدرة المستمرة علي الارتقاء المادي والثقافي والروحي. والحضارة يعرفها البعض بانها (كل جهد يقوم به الانسان لتحسين ظروف حياته) والمفردة في اللغة العربية مشتقة من الفعل حضر. والحضور  هو أظهار الوجود بحيث يكون مشهوداً من الاخرين. ولذلك فأن الحضور يتفاوت بين شخص وآخر . لأن الحضور له صلة وثيقة بما يتركه الفرد من أثر علي الآخرين بحيث يكون مشهوداً يشد اليه الانظار ويجذب إليه الابصار. ولعله لهذا السبب فرقت العرب في لغتها بين الحضر والبدو فالحضارة عامرة بالمشاهد والحركة الدائبة . واما البداوة فتتسم بالبساطة والرتابة والسكون. وقد ارتبطت كلمة حضارة المثيرة للجدل دائماً بمفهوم التفوق الانساني والترقي والرفعة. ولذلك فقد دأب بعض المنسوبين لحضارات معينه على النظر لاصحاب الحضارات الاخري بوصفهم أقل رقياً بل وهمجين وبرابرة. بيد أن الترقي مسألة نسبية وبخاصة في جوانبه الثقافية والفنية والروحية والاخلاقية. فالترقي المادي يسهل قياسه.  ولكن الحضارة غير المادية لا معيار لها الا الفطرة الانسانية السوية والعقل الرصين والدين القويم. واذا كانت الحضارة هي الخاصية التي تسم اسلوب أمة وطريقتها في الترقي العمراني والثقافي والروحي والاخلاقي فان معني التحضر يقترب كثيراً من معني الشريعة الذي هو استمداد فكري وروحي لتحقيق الترقي الانساني. وبهذا المعني فاذا كان مفهوم التحضر مفهوماً تقدمياً فأن مقصد الشريعة الأوحد هو الترقي بالحياة والتقدم بها الي افاقٍ ارحب .
المشروع الحضاري الاسلامي:-
        وعبارة المشروع الاسلامي الحضاري ترددت كثيراً لدي الحركات الاسلامية . ومرجع ذلك أن المسعي الرئيس للحركات الاسلامية المعاصرة هو احياء الاسلام وتجديده ليقود الحياة الي الرقي المادي والثقافي والروحي والاخلاقي. كما أن وقوع البلاد الاسلامية تحت هيمنة الدول الغربية التي سعت بقوة إلي فرض انموذجها الحضاري المادي والاخلاقي علي مستعمراتها سبب آخر من اسباب المجانبة للحضارة الغربية.  وطرح المشروع الحضاري الاسلامي جاء بديلاً لحالة الاستسلام للهيمنة الاستعمارية الحضارية الغربية. ولكن الاسلاميين من لدن الافغاني الي يومنا هذا ادركوا أن المعرفة بالاسلام التي ورثوها عن عصر الانحطاط لا يمكن لها ان تكون نداً في المواجهة مع الهيمنة الحضارية الغربية . ولذلك فإن اول مطلوبات احياء الانموذج الحضاري الاسلامي هو تجديد الفكر لتتجدد الحياة به. وتجديد الفكر من لدن الافغاني ومحمد عبده والسنهوري كان يعني تجديد الفهم للشريعة الاسلامية. والسنهوري في كتاب الخلافة الذي نشره في العام 1922 تحدث عن التجديد الحضاري . فيقول ان النهضة الحضارية في العالم الاسلامي تستوجب النهضة بالشريعة الاسلامية . وجعلها مطابقة لروح العصر وتطوير اللغة العربية بوصفها وسيلة التواصل بين شعوب الامة . كما يتحدث عن احياء العلوم والمعارف.  وتطوير الاقتصاد واحياء الرابطة بين الشعوب الاسلامية. وما أوما اليه السنهوري منذ ما يقارب القرن من الزمان لا يزال هو الامر المطلوب لانجاز المشروع الحضاري الاسلامي.  فلا يزال المشروع الاسلامي هو مشروع تحرر وتطور واتحاد. ونقصد بالتحرر هو الاستقلال عن كل هيمنة سوي الارادة الذاتية للفرد والأمة . فلا يجب ان تخضع الامة لارادة خارجية مستعلية لكي تحصل علي منفعه زائلة او متعة عابرة . وكذلك الانسان الفرد يتوجب أن يستعلي بارادته عن الخضوع لغرائزه او الاستخزاء لسواه لرغبة جامحة او حاجة عاجلة . ذلك ان كل ارتقاء هو ثمرة الجهد والكد والكدح.  فما  يفلح المرء يكون كلا علي سواه  ولا تفلح الأمة تكون خاضعة وتابعة لغيرها من الامم.
والمشروع الحضاري الاسلامي هو مشروع تجديد وابتكار وتطور . وهو بهذا المعني مشروع انماء فكري وانساني . فمثلما ان المرء لا يعد عالما اذا اكتفي بالحفظ عن معلمه وبتقليده دونما مساءلة او تفكر او تأمل او انشاء جديد فأن الامة لن تكون متحضرة متطورة متقدمة اذا اكتفت برصيدها الحضاري الذي سوف يتآكله الزمن ويبليه . فلا تكون حضارة الامس إلا اثراً بعد عين. فلئن كانت الاجيال الماضية جعلت حضورها محسوساً في التاريخ بما تركت من اثار نهضة العلوم والفنون والعمارة فان اجيال اليوم لابد لها من الاستفادة من ذلك التراث ومن علوم الحاضر وتجاربه للارتقاء الي مراتب رفيعة تحقق لها الظهور بين الامم. والمشروع الاسلامي اذا ليس مشروعا لتطبيق شريعة موروثة بل هو مشروع الاستمداد من ذات مصادر تلك الشريعة لاحياء معانيها في النفوس وملائمة هداياتها للازمان والاحوال. ولذلك فأن العبارة الدقيقة ليست هي تطبيق الشريعة وكانها تطبيق جاهز Application   بل العبارة الصحيحة هي تحكيم الشريعة.  لأن مفهوم الشريعة سيتفاوت حكماً بالنظر للحال والمآل.
الشريعة ... تحديد المفهوم:-
        أصبح المعني الدارج للشريعة وكأنها مجموعة من الاحكام القانونية التي تتصل برد الجانحين الي جادة الصواب. واصبح معناها السائد مقارباً لمعني الالتزام بالحد الادني من الاسلام . اي مجرد عدم الخروج علي احكام الاسلام وآدابه وهذا ظلم فادح للشريعة فالشريعة هي المنهاج الواضح الذي يشرع بالمرء الي تحقيق الحق من كل شئ وفي كل شئ . وهي كما يقول الزمخشري :هي الطريقة المتنزلة في زمن مخصوص لتحقيق مقاصد الدين والدنيا ولئن كانت الشريعة في زمن الرسول صلي الله عليه وسلم متنزلة علي احوال الناس في ذلك الزمان . مفسرة بقدوة الرسول الحسنة وأسوته المباركة الطيبة فان الشريعة في زماننا يتوجب ان تكون استمداداً من ذات المصادر ونهلاً من ذات المشارب وتنزيلاً علي احوال الناس في هذا الزمان . لذلك اصبح معناها متصلاً بمعني الاستمداد والتخريج بالنظر الي مقاصد الدين ومصالح الناس .  فالشريعة التي تخطئ فهم مقاصد الدين ومرادات الاحكام ليست هي الشريعة المعنية المقصودة .  والشريعة التي لا تحقق مصالح الناس وتجلب المنافع إليهم وتدرأ المفاسد والشرور عنهم ليست هي الشريعة المطلوبة المقصودة.
أنسنة الشريعة:-
        بعض الفهوم جعلت الشريعة مطلوباً لنفسها . وهذا فهم مغلوط طائش عن الحق . وانما انزلت الشريعة لتحسين حياة الانسان فرداً وجماعة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فكل فقيه لا يكون التيسير والتسهيل والرحمة والرفق منهاجه في الأخذ عن الشريعة ليس بعالم ولا فقيه . ولا هو جدير بأن يسمع له قول او ترفع له رتبه. لان مراد الله الأوحد من التشريع هو الرحمة والرأفة والرفق بالناس . ورفع العنت والحرج والإصر عنهم. ولكننا في هذا الزمان لا نكاد نسمع من فقهائنا إلا التصعيب والتثريب.  وكأنهم ما علموا ان مبتدأ الفتوي هو النظر الي الاحوال قبل فرض التكاليف . ثم أن الحرج مرفوع في كل حال والرفق مطلوب في شتئ الاحوال. وان الانسان وما تصير اليه حاله بعد التكليف هو أجدر الامور بالاعتبار.  وعلي ذلك معول كل فقه القياس والمصالح والذرائع. أن أبعد أنواع الفقه نجعة من الشريعة هو ذلك الفقه المتباعد من التعاطف مع الانسان المتجرد من الرحمة والرأفة . ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم والذي أرسل رحمة للعالمين هو الذي وصفه الله تعالي بقوله (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين روؤف رحيم) فمن أحب ان يكون من العلماء الذين هم ورثة الرسول صلي الله عليه وسلم فيجب أن يعز عليه كل عنت و يأبى كل مشقة تصيب المؤمنين.  وان يتحلي إذ ينطق بأية فتوى أو يفه بأى حكم بالرحمة والرأفة فذلك كان دأب الرسول صلي الله عليه وسلم وذلك هديه وتلك طريقته المثلى.





نواصـــل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق