تابعت باهتمام بالغ ما جري من ملابسات حول العبارة التي جاءت علي لسان الاخ الصديق اللواء حسب الله عمر والتي لم يساورني (لمعرفتي بالرجل) أدني شك أنها جاءت علي غير المعني المراد. بيد ان الانفعالات التي اعقبت تلك المداخلة والملابسات التي تلتها تدعو الي وقفة ضرورية للتأمل حول موقع تحكيم الشريعة من المشروع الوطني السوداني. لاسيما ونحن نقبل علي اجتراح مرحلة جديدة من مراحل التطور السياسي في السودان.
الشريعة والسياسة
ولربما يكون من المستحسن أن نبدأ بتعريف الشريعة في اللغة والاصطلاح. يقول الفيروز آبادي في القاموس المحيط (الشريعة هي الظاهر المستقيم من المذهب والشرعة هي مورد الشاربة "يقول بن منظور" شرع الوارد يشرع شرعا وشروعاً: تناول الماء بفيه) والشريعة والشراع والمشرعة المواضع التي ينحدر منها الي الماء، قال الليث بن سعد وبها يسمي ما شرع الله للعباد شريعة. والشريعة في كلام العرب شرعة الماء وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. والعرب لا تسميها شريعة حتي يكون الماء عداً لا إنقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يسقي بالرشاء وفي المثل:- أهون السقي التشريع ذلك لأن مورد الأبل اذا ورد بها الشريعة لم يتعب في إسقاء الماء لها كما يتعب اذا كان الماء بعيداً. والمتأمل فيما سبق يتوصل الي أن معني الشريعة يتلخص في أنها هي المورد السهل الميسر للماء الذي لا ينقطع معينه ويسهل الوصول اليه والإشراف عليه. ولعل الكناية عن الهداية الألهية بمشرع الماء الذي لا ينقطع معينه ولا يتعسر الوصول اليه كناية ذات دلالة عظيمة. ذلك ان الماء الذي هو سبب الحياة في كل بدن حي يشبه هداية الله التي هي الحياة لكل روح حي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) فكما تستمد الابدان حياتها من الماء تستمد الارواح حياتها الحقة من هداية الشرع. وفي التشبيه بشرعة الماء إشارة لا تخفى عن كون معين الشريعة لا ينضب وان ورود سبيلها سهل ميسر. وكما أن اهون السقي التشريع فسبيل الشريعة هو الاهون والأيسر. وكل شرع وضعي سواه قد تتعسر موارده ولا تصفو مشاربه ولا يدوم معينه.
وأما الشريعة في الاصطلاح فذات نسب قريب بالمعني اللغوي وهي الطريق الموصلة الي تعاليم الدين وهديه واحكامة (ثم جعلناك علي شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) أي جعلناك علي منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلي الحق فالشريعة هي المنهاج المخصوص الذي يؤدي الي حقائق الدنيا والدين "شرع لكم من الدين ما وصي به نوحاً والذي اوحينا اليك" فالشريعة هي الطريقة المتنزلة في زمن مخصوص لتحقيق مقاصد الدين والدنيا. يقول الزمخشري الشريعة هي المنهاج والطريق الواضح الذي تمرون عليه".
أطنبنا في تعريف الشريعة لأننا سوف نستخدم كل المعاني الواردة لاحقاً معاني الاحياء والتيسير والتسهيل والهداية والاتصال والاستمرار وصلة كل ذلك بالوقت والمحل.
السياسة لغة واصطلاحاً
كلمة سياسة بمعناها الدارج اليوم في حياتنا المعاصرة تختزن المفهوم الغربي لهذه المفردة. وذلك المفهوم يجعل دلالتها الأظهر هي ما يتصل بالقوة والسلطة والدولة. إلا أن التمحيص الدقيق لهذه المفردة في السياق الحضاري الاسلامي يبرز من المعني الدلالات التي تتصل بالتربية والتدبير والرعاية وتحصيل المصالح ودرء المفاسد. يقول ابن منظور:- السياسة القيام علي الشئ بما يصلحه والأصل السوس الطبع والخلق والسجية وفي قاموس مختار الصحاح السياسة هي الإيالة يقال آل الأمير رعيته من باب قال أي ساسها واحسن رعايتها وفي ذلك اشارة لطيفة الي ان الوالي ينظر في ما توؤل اليه قراراته وتصرفاته واوامره فكأن السياسة في الاصل نظر في المآلات وهذا معني صحيح. وكلمة سياسة الي جانب النظر في المآلات تحمل معني التوسل بكافة الوسائل لتحقيق المقاصد
ومصطلح سياسة الوارد في كتب التراث الاسلامي لا يخرج عن هذا المعني الي المعني المعاصر الذي يركز علي امتلاك واستخدام السلطة والقوة فالمصطلح يرد في كتب التراث جميعاً في سياق تدبير المرء لامر نفسه وتدبير المرء لامر اهله وتدبير الامام لامر الأمة واستخدم الفلاسفه السياسة لذات المعني فعند الفارابي قى كتاب السياسة المدنية رئيس المدنية الفاضلة هو إنسان كامل صار عقلاً وتجرد عن شوؤن المادة وهموم الحياة اليومية وهو المدبر لشان الامة في المدينة يقول الفارابي "ذلك لانه مستغرق في الله مستضىء بنوره يقبس من لدنه العلم الالهي الذي هو مصدر التشريع والتدبير للمدينة الفاضل اما ابن سينا ففي رسالة (السياسة) فهو يتحدث عن حاجة الناس للسياسة لان المجتمع البشري لا يصلحه إلا قيام الحكم والتدبير والسياسة عنده اصلاح وتدبير يقول ان العقل والشرع اساس الصلاح فالفعل بكشف العيوب وكشف العيوب ضروري لاصلاح النفس واصلاح الآخرين، وابن خلدون في المقدمة يكتب عن حفظ الدين وسياسة الدنيا به وكل ذلك مهمة الخليفة الحاكم. وكلمة سياسة عنده هي رعاية الخليفة لمصالح الناس في العمران البشري الذي هو مقصد جميع الناس.
والغزالي يمضي ذات النهج فالسياسة هي تربية النفس هلي اخلاق الايمان وحملها علي أصول العدل والانصاف ويحدد مهمة السياسة الشرعية في اصلاح نفس الراعي وإصلاح شان الرعية. فالسياسة اذاً في مفهومها الحضاري الاسلامي ليس حيلاً للوصول الي السلطة او استخدامها بخطرات القلوب او تشهبات النفوس بل هي تدبيرالانفس والجماعات والمجتمعات بما يصلحها لتربيتها علي اخلاق الايمان ودرء المفاسد والمعايب عنها وجلب المنافع والمصالح إليها والاجتهاد فيما يصلح دنيا الناس ويصلح بها آخرتهم في عاقبة أمرهم.
السياسة والناس
اطنبنا في تلك الشروح لاننا نري لزوم ذلك في توضيح مغزي السياسة في حياة الناس افراداً وجماعات ومجتمعات. فالسياسة ليست هي طرائق التوصل للسلطة ولا هي نزاعات أهلها حولها ولا هي الأطر والهياكل والتنظيمات فلئن كان ذلك كله متصلاً بامر السياسة إلا ان المراد من التوصل الي السلطة ومن تأسيس المؤسسات لممارستهاهي استخدام التصرف بالسلطة لجلب المنافع والمصالح للناس ودرء المفاسد والشرور عن الناس. والسياسة هى تصرف الحكام بالسلطة , فاذا انحصرت تصرفات الحكام الي تجييرسلطاتهم للظهور فوق اعناق الناس واكتساب الجاه باسباب ذلك. والي استخدام النفوذ لاحتياز الاموال واغداقها علي النفس والاقرباء وعلي المنسوبين والمحسوبين. فتلك سياسة فاسدة. ولكنها صارت وكأنها العلامة المائزة للسياسة المعاصره، ولعالم السياسة والسياسين حتي صارت المفردة وكانها كلمة منتنة. لا تذكر إلا وتقشعر الابدان وتشمئز الانفس. واما السياسة المرادة بالمعني فهي كما ذكرنا آنفاً أصلاح الانفس لإصلاح شوؤن المجتمعات بصلاحها وحسن تدبيرها.
الدين والسياسة
فاذا كانت السياسة لا صلاح لها إلا بصلاح الانفس والاخلاق. فقد توصلت الحكمة الانسانية ان افضل ما يتوسل به الى حسن الاخلاق هو التدين. اي التمثل بهدايات الدين ومثله واخلاقه ونحن نقر بأن التخلق بالخلق الحسن ليس وقفاً علي اهل التدين. فالفطرة السليمة العقل القويم هو الأخر وسيلة لتربية النفوس علي أحاسن الاخلاق. بيد أن الدين الحق هو أهم تلك الوسائل جميعاً بل أن الدين الحق هو الذين يصون الفطرة السليمة ويربي العقل السديد القويم. وجميع الفلاسفه الذين وضعوا النظريات الكبري في السياسة من لدن ارسطو وافلاطون إلي الفارابي وابن سينا وابن رشد وصلوا جميعاً بين نظام الدين ونظام الفكر ونظام الاجتماع الذي هو السياسة الفاضلة.
اما العلمانيون دعاة الفصل بين الدين والسياسة فقد كانوا ولا يزالون يبعدون النجعة عن الدين في شأنهم الخاص مثلما يدعون الي ابعاده في الشان العام, ولئن كانوا قد استغنوا عن التدين في خويصة انفسهم فليس من المستغرب ان يكونوا دعاة ابعاده عن الشوؤن العامة في المجتمع. والعلمانيون يزعمون انهم ليسوا اعداء للتدين وانما يريدون للدين ان يكون شانا خاصاً. وكذبوا فافعالهم تكذب اقوالهم لأنهم لم يعملوا بما يقولون بل نبذوا الدين في حياتهم الخاصة كما رفضوه في الحياة العامة. وقولهم ان الدين مطلوب في الحياة الخاصة غير مرحب به في الحياة العامة قول يناقض تسليم الجميع بأن الانسان مدني بطبعه أي أنه مؤثر في غيره متاثر بهم من خلال المجتمع فاذا كان التدين ضروري لأصلاح الانفس فإن المجتمعات لا يرجى صلاحها إلا بقيام النفوس الصالحة علي تدبير امرها بالسياسة الفاضلة والاجتماع السياسي، بقتضي تعارف الناس وتعاقدهم علي الانظمة والاخلاق المرعية التي تحقق مقاصدهم وترعي مصالحهم. ولا سبيل الي ادراك ذلك إلا باستلهام الهدي الالهي والاستنارة بهدي العقلء الانساني والاستبصار بعبرة تاريخ الانسانية جمعا.
نواصـــل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق